تأسيس ثقافة الترشيد والخفض

هي مبالغات تلك التي أطلقها بعض الجهات، بأن استهلاك المملكة من النفط سيتوازى مع إنتاجها من البترول في غضون 15 عاماً. البعض وضع 2030 كحد أقصى، والبعض الآخر حدد 2035. والحق، أن التقديرات في هذا المجال لا تتوقف، وهي تراوح بين مستويات واقعية تستند إلى ما هو موجود على الأرض بالفعل، وبين مستويات وهمية لا تستند إلى أي معطيات حقيقية. لكن هذا كله لا يعني أن السعودية تحافظ على توازن بين الإنتاج والاستهلاك، بل على العكس تماماً، استهلاك المملكة من النفط محلياً يرتفع بوتيرة باتت مقلقة ليس الآن، لكن منذ مطلع العقد الحالي. والأمر هنا، لا يرتبط فقط بالاستهلاك الفردي المباشر فقط، بل باستخدام النفط لتوليد الطاقة الكهربائية وتحلية المياه. ولا بد أن يتم الأخذ بتحذيرات الجهات الواقعية الرصينة في هذا المجال، مع ضرورة عدم الانتباه إلى تلك التقديرات الهزلية.
المملكة تسعى إلى خفض استهلاك الطاقة بنسبة 30 في المائة بحلول عام 2030. وهو هدف ضروري للغاية، خصوصاً مع تطورات لا تتوقف على صعيد الطاقة، سواء تلك المرتبطة بالإنتاج أو الاستهلاك، أو تنويع مصادر الطاقة نفسها، أو دعمها، أو زيادة الضرائب عليها، إلى آخر المحركات الرئيسة لقطاع الطاقة حول العالم. ولا شك أن السعودية - كغيرها من دول الخليج العربية الأخرى - تخوض"معركة" ما يمكن وصفه بـ "نشر ثقافة الطاقة"، بعد سنوات طويلة من التسيب في هذا المجال، وعدم الفهم الواقعي للمستهلك طبيعة النفط الاستراتيجية. والحق، أن المملكة قد تضطر إلى خفض استهلاكها للنفط إلى أكثر من 30 في المائة، إذا لم تحقق خطوات عملية على مختلف الأصعدة، بما في ذلك عمليات التهريب التي تتم بصورة يومية عبر حدودها.
لقد كان وزير البترول علي النعيمي، واضحاً للغاية عندما قال: "إذا أرادت دول العالم أن تنمو، فليس لديها خيار سوى ترشيد استخدام الطاقة، ليعود عليها بالمصلحة والخير". والنمو يعني في المفهوم الطبيعي له الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، والاستهلاك الذي يستند إلى أسس استراتيجية واقعية. ومن دون هذا المفهوم، يكون النمو لمجرد النمو مثل الخلية السرطانية. والطاقة في السعودية - وغيرها من البلدان - ليست ملك منتجها الحالي، بقدر ما هي ملك لمنتجها المقبل. بعض بلدان العالم اختصرت الطريق وفرضت ضرائب عالية جداً على استهلاك النفط بكل أنواعه، بما فيها تلك المنتجة للبترول. ومسألة الضرائب هذه أنشأت ثقافة استهلاكية متطورة للوقود في الدول المعنية، إلى درجة، أن الجيران باتوا يتشاركون سيارة واحدة توفيراً للوقود.
يمكن للسعودية ببساطة أن تبدأ عملياً خفض استهلاكها المحلي من النفط، ويمكنها أن تزيد من وتيرة الخفض في مراحل مقبلة، ولا سيما عندما تبدأ خدمات المترو في مدينة الرياض، وعندما يشهد النقل العام تطوراً يناسب استحقاقات المرحلة المقبلة. كما أنه يمكن للسعودية أن تقلل اعتمادها على النفط لتوليد الكهرباء، والتحول بنسب مقبولة إلى الغاز كمصدر مباشر لعملية التوليد هذه. هناك الكثير من الخطوات التي يمكن أن تعتمد في هذا المجال، بما في ذلك طبعاً، التعاون المأمول بين دول مجلس التعاون الخليجي في مسألة توحيد أسعار المحروقات والوقود، منعاً لعمليات التهريب الكبرى التي تشهدها السعودية بصورة أكبر من غيرها من دول المنطقة.
هناك الكثير من أشكال هدر الطاقة النفطية وغيرها على الساحة السعودية، ويمكن البدء بها لخفض الاستهلاك. إن الوصول إلى الحد المقبول من الاستهلاك المحلي للطاقة في المملكة سيعزز بصورة مباشرة عمليات تصدير النفط السعودي في السنوات القليلة المقبلة، التي ستشهد تحولات في هذا المجال، تربك الصيغة التي ظل عليها النفط طوال العقود الماضية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي