وأخيرًا .. الشرق والغرب يلتقيان
في الأربعينيات من القرن العشرين، أطلق الشاعر الإنجليزي "الهندي المولد" روديارد كبلنج قصيدة جاء في أحد مقاطعها أن: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، ويومذاك أطلق هذه العبارة بنَفَسْ غربي وأخذ صريرها يتردد بين الأجيال عبر عشرات السنين.
وكان كبلنج يعبر عن الهوة السحيقة بين المجتمعات الشرقية، ويعني بالذات الهنود الذين ولد في أحضانهم، وبين المجتمع الغربي الذي يحمل هويته، باعتباره ينحدر من أبوين بريطانيين، وخلال نشأته في الهند تأسى بالثقافة الهندية، وحاول أن يجمع هذين الأبعدين، ولكن الواقع الحاد بين الشرق والغرب آنذاك أكد له أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا.
وهذا المقطع بكلماته الست البسيطة استطاع أن يضع اسم هذا الشاعر والروائي في سجل الخالدين، ومعذرة لموسوعة جينيس للأرقام القياسية، فهذه الموسوعة العالمية لم تكن قد ظهرت حينما أطلق كبلنج مقولته في الأربعينيات من القرن العشرين.
وعلى الرغم من أن مطلق هذه العبارة من الغرب، إلاّ أن الغرب لم يحفل آنئذ كثيرًا بهذه العبارة، بينما الشرق وبالذات العرب حفظوا هذه المقولة وطفقوا يرددونها وما زالوا يرددونها في كل مناسبة ومناسبة.
والسؤال الآن: هل هذه المقولة ما زالت تتطابق مع الواقع الذي نعيشه، أم أن الزمن جار عليها وبدل كل شيء تبديلًا؟! إذا عدنا إلى هذه العبارة وفحصناها بميزان الواقع، فإننا نجد أن هذه المقولة لم تعد صادقة كما كانت صادقة في الأربعينيات، فقد تحققت تطورات مذهلة في العلاقات الدولية، ولعبت تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات دورًا مذهلًا في التقريب بين الدول، وإذا كان الكون مترامي الأطراف في الماضي، فإن أطرافه ـــ في القرن الحادي والعشرين ـــ لم تعد مترامية، بل أصبحت كلًّا في واحد.
وباختصار، إننا اليوم أصبحنا في عصر يدعى عصر العولمة، ونعيش معًا في القرية الكونية، ولم يعد الشرق شرقا ولا الغرب غربا، ولن يلتقيا، فلقد تطابقت الحدود، وتجمعت في مساحة 5سم × 5سم.
أقصد العالم اليوم يرى نفسه في كل لحظة على شاشة الموبايل التي لا تتجاوز مساحتها 5سم × 5سم، يتحادث بعضه مع بعض، ويبني علاقات تجارية تقوم على المصالح المشتركة، الأكثر من هذا أن الصراع بين الثقافات لم يعد بالحدة التي كان عليها، وها هو الملك عبد الله بن عبد العزيز يفتتح مركز الملك عبد الله لحوار الأديان والثقافات في قلب أوروبا "فيينا"، ولا يختلف اثنان على أن كل دول العالم المتقدم والناشئ والنامي تتغنى اليوم بحلم الديمقراطية، وتزحف نحو تطبيق الاقتصاد الرأسمالي الحر، ويتجه المجتمع الدولي إلى عولمة الأعمال التي تتميز بتعدد الجنسيات، وسينشط العالم نحو تزايد اهتمام المنظمات بالمعارف التي يملكها الأفراد، وستصبح المنظمات ذات كثافة معرفية، وسيصبح أهم مورد للمنظمات متعددة الجنسيات هو الفكر والإبداع بعيدًا عن العرقية الضيقة، وبدأت شبكات الإنترنت تلعب دورًا مؤثرًا في تقريب الثقافات وقبول الآخر والابتعاد عن سياسات الإقصاء والاستبعاد.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فقد حققت منظمة التجارة العالمية نجاحات متواصلة في ضم المزيد من الدول إلى السوق العالمية المشتركة، بمعنى ستصبح منظمة التجارة العالمية سوقًا عالمية مشتركة تضم كل دول العالم وتحكم دولها الأعضاء البراغماتية والمصالح المشتركة بعيدًا عن مقولة الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا.
والمستقبل يؤكد أن التكنولوجيا ستلتحم بكل العلوم الأخرى.. حتى العلوم الإنسانية التي أصبحت طرفًا في جميع التحليلات العلمية لجميع العلوم، فهناك الإلكترونيات الدقيقة وتكنولوجياتها وتطبيقاتها الهائلة في أكثر من علم وأكثر من مجال، وبالأخص في مجال الاتصالات والمواصلات، وهناك تكنولوجيا الإلكترونيات الدقيقة التي أخذت تغير المعطيات الأساسية للحياة والبنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وهناك أيضًا تكنولوجيا البيولوجيا وهندسة المكونات الوراثية، وهناك من يتكلم عن التكنولوجيات التي يستخدمها الجيولوجيون في اكتشاف الموارد الطبيعية التي تختزنها الأرض وقعر البحار والمحيطات، وهذه العلوم وتلك التقنيات ستساعد على تقارب البشر فوق كوكب الأرض.
والسؤال الأخير: هل لا يزال هناك من يردد مقولة الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا؟!
طبعًا هناك فئات ما زالت تزعم أن مقولة الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا ما زالت قائمة، وأن ما يحدث في التطابق البشري هو تطابق على مستوى الدول، أما على مستوى الأفراد فإن الثقافات لا تزال تحافظ على خصوصية المجتمع الشرقي في مواجهة خصوصية المجتمع الغربي، بل أكثر من هذا فإن قيادات في الغرب ما زالت تتخصص في تجييش المجتمعات الغربية ضد المجتمعات الشرقية، وتتعدى عداواتها محاربة الثقافة بالثقافة إلى المطالبة بالقضاء على الآخر وبعث الحروب الصليبية ضد الشرق، وهو ما نراه اليوم في الحروب الغربية في أفغانستان وباكستان والعراق والسودان والصومال وفي كل بقاع الأرض.
والخلاصة إن بقايا المجتمعات المتعنصرة ما زالت تكرس لرواج مقولة الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، ولكن لا ننكر أن عالمًا متحضرًا بدأ يتحرك بقوة لتكوين المجتمع الإنساني المتوحد الذي ينبذ التفرقة ويرفض التمييز العنصري، ويدعو إلى مجتمع إنساني ينعم بسلام حقيقي يعم كل أرجاء المعمورة.