هل يوجد ما يمكن أن يطلق عليه آسيا؟
على طريقة "هل يستطيع الآسيويون أن يفكروا؟" وهو سؤال جدلي اختاره المفكر والدبلوماسي السنغافوري البروفيسور كيشور محبوباني عنوانا لأحد أشهر كتبه، الذي تولى مشكورا الصديق الدكتور حمزة المزيني أستاذ اللسانيات في جامعة الملك سعود الأول نقله إلى العربية، خرج علينا أخيرا كبير الباحثين في علم الاجتماع والتاريخ الكوري المعاصر في جامعة ليدز البريطانية أيدن فوستر كارتر، الذي كان مغرما في شبابه بدكتاتور كوريا الشمالية كيم إيل سونغ بسؤال مفاده: "هل هناك حقا شيء يمكن أن نطلق عليه آسيا؟".
ينطلق كارتر في سؤاله هذا من حقيقة أن آسيا تختلف مثلا عن أوروبا وعن إفريقيا وعن الأمريكتين لجهة الوحدة الطبيعية والتجانس الثقافي والتاريخي. فعلى حين تملك دول أوروبا تاريخا مشتركا وثقافة واحدة مشاعة، وعلى حين أن كل واحدة من الأمريكتين تتميز بالشيء ذاته، وكذا الحال بالنسبة لدول القارة الإفريقية (على الأقل إفريقيا السوداء)، فإن آسيا تنقسم بوضوح إلى خمسة أجزاء يمكن أن يطلق على كل منها تجاوزا اسم قارة، لأن لكل جزء من هذه الأجزاء جغرافيته وتاريخه وإرثه الحضاري وجذوره الإثنية وثقافته الخاصة. والإشارة هنا بطبيعة الحال إلى شمال شرق آسيا، وجنوب شرق آسيا، وجنوب آسيا، وآسيا الوسطى، إضافة إلى غرب آسيا أو ما يطلق عليه اصطلاحا منطقة الشرق الأوسط.
وفي رأيه – وربما في رأي مفكرين آخرين من الغرب – أن ما جمع هذه الأجزاء يوما ما، حتى بدت للناظر أنها كتلة كبيرة واحدة متجانسة، هو مقاومة الاستعمار والحلم في التحرر وهو ما أسس لظهور شعار "الوحدة الآسيوية" الهشة على غرار "الوحدة العربية"، بل ما أدى في الخمسينيات والستينيات إلى تحالفات قارية تجسدت في ظهور مؤتمر باندونغ، و"كتلة عدم الانحياز"، و"مؤتمر التضامن الأفرو- آسيوي" بهدف الوقوف في وجه الإمبريالية والكلونيالية. وعلى هامش هذه التطورات برزت شخصيات وزعامات خطفت الأنظار خارج نطاق حدودها القطرية، لكنها لم تكن على قدر واحد من الحنكة والمصداقية والنقاء الفكري وأسلوب العمل من أجل تحقيق الأهداف العظيمة. فمثلا في تاريخ أمريكا الجنوبية نجد مكانة عظيمة تصل إلى درجة التقديس لمحررها من الاستعمار الأوروبي سيمون بوليفار الذي حاول الرئيس الفنزويلي الراحل الباحث عن العظمة هوغو شافيز التشبه به دون نجاح. وفي تاريخ إفريقيا السوداء نجد زعماء من أمثال كوامي نكروما أول رؤساء غانا وأول الداعين إلى الوحدة الإفريقية بمجرد استقلال بلاده في عام 1957، ومن أوائل من أسقطتهم الانقلابات العسكرية في القارة السمراء.
أما في آسيا فلم تفلح محاولات اليابان الإمبراطورية لخلق حالة من الوحدة القومية في منطقتي شمال شرق القارة وجنوب شرقها من خلال إذكاء العداء ضد الغرب. وبالمثل فشلت فكرة التعاون مع النازيين للتخلص من الاستعمار البريطاني التي روجها في الأربعينيات الشخصية البنغالية المثيرة للجدل سوبهاز تشاندرا بوز في خلق حالة من الوحدة القومية في نطاق منطقة جنوب آسيا، حيث رأت أغلبية شعوب المنطقة أن الفكرة تنطوي على استبدال استعمار بآخر. كما لم تحظ شعارات أحمد سوكارنو البراقة في إندونيسيا وغوغائيته وحروبه الإعلامية ضد جيرانه في سنغافورة وماليزيا بأي قدر من النجاح في توحيد أمم وشعوب جنوب شرق آسيا.
وهكذا يستنتج كارتر أن آسيا لم تكن يوما كتلة واحدة ولن تكون، وأن من يتحدثون عن القرن الحالي كقرن آسيوي إنما يعولون على بروز كتلة أو أكثر أو صعود دولة منفردة أو أكثر ضمن قارة آسيا. ويستطرد ليقول إن الشعوب والقيادات الآسيوية علمتها التجارب بأن تكون أكثر واقعية فلا تطالب مثلا بوحدة آسيوية – لأن ذلك ضرب من المستحيلات في ظل التباينات الكثيرة والمتنوعة الموجودة داخل القارة – إنما تطالب بشيء أكثر تواضعا مثل مشاريع وحدوية آسيوية مصغرة مقتصرة على الكيانات المتشابهة في ثقافتها وإرثها الحضاري، والمتلاصقة جغرافيا، والمتآلفة سياسيا، والمتشابكة اقتصاديا. ويمكن القول إن هذا يتجلى بوضوح في منظومة آسيان لدول جنوب شرق آسيا التي لئن تأسست على غرار الاتحاد الأوروبي فإنها تشتكي من التباطؤ والحذر الشديد وخوف أعضائها على سياداتهم الوطنية فلم تــُقدم حتى الآن على خطوات ومبادرات شجاعة كتلك التي حولت السوق الأوروبية المشتركة الفضفاضة إلى اتحاد أوروبي واعد.
على أن الحالة في جنوب شرق آسيا أفضل بكثير من الحالة في جنوب القارة وشمال شرقها. ففي جنوب آسيا، حيث الخلاف الهندي – الباكستاني مستعر منذ أكثر من ستة عقود رغم انتماء البلدين إلى ثقافة وحضارة مشتركة، لا نجد بصيص أمل في إزالة الجمود المخيم على منظومته الإقليمية المسماة "سارك" الناجم تحديدا عن حالة العداء المرير بين أكبر عضوين فيها. وفي شمال شرق آسيا، نرى صراعات وتحرشات وتهديدات تشبه ما يجري بين أطفال المدارس المشاغبين، في الوقت الذي كان المفترض فيه أن تعطي أقطار هذا الجزء الآسيوي لغيرها من الأقطار الآسيوية دروسا في الحكنة وكيفية التعاطي مع الأزمات وحل خلافاتها مع جاراتها بصورة حضارية توازي ما حققته من ريادة في مختلف المجالات وتفوق اقتصادي وصناعي وعلمي وتكنولوجي، ومكانة على الساحة الدولية.
فعلى سبيل المثال لا تزال الصين واليابان وكوريا الجنوبية - وهي الدول الرئيسة في شمال شرق آسيا - رغم تعاقب العقود الطويلة وتوالي الأجيال- تعيش جراحات وآلام الماضي الغابر وتستدعي ذكريات مؤلمة لأزمان ولت، أو تتنازع وتحرك قواتها وتؤجج المشاعر القومية من أجل السيادة على جزر صخرية غير مأهولة، في الوقت التي استطاعت فيه الدول الأوروبية مثلا، وهي التي خاضت حروبا فيما بينها أهلكت عشرات الملايين من البشر وخلفت وراءها خسائر جسيمة لا تقدر بثمن، أن تسدل الستار نهائيا على جراحاتها وخلافاتها الماضية.
غير أن كارتر في نهاية المطاف يستدرك فيقول إن ما طرحه من أفكار لا يعني عدم وجود قيم آسيوية مشتركة كتلك التي شدد عليها زعماء آسيويون كبار مثل مهندس المعجزة السنغافورية لي كوان يو والرئيس الكوري الجنوبي الأسبق كيم داي جونغ الذي لقب بـ "نيلسون مانديلا" لصموده الطويل أمام الديكتاتورية والإذلال والقمع.