ما الشر؟ وكيف نفهمه؟
كأفراد أو مجموعات نتصور أنه بإمكاننا تحديد ماهية الخير والشر، ووضع الشروط لما نراه صالحا أو طالحا. ولدى الكثير منا أسس ومعايير، منها ما نكتسبه من محيطنا وثقافتنا، ومنها ما نتعلمه ونمارسه ونحن صغار من خلال ما يلقننا إياه علماؤنا إن كنا أصحاب كتب "سماوية" أو غيرها.
والتمييز بين الخير والشر تمرين نتدرب عليه منذ الصغر بأشكال مختلفة قبل التحاقنا بالمدرسة. وفي المدرسة يكثف لنا المعلمون التمارين في محاولة منهم لهدايتنا صوب الخير وتجنب الشر.
وأتذكر عندما كنت تلميذا صغيرا كان المدير يكتب على لوحة كبيرة حكمة الأسبوع، التي كانت دائما تدلل على معيار أخلاقي إنساني سليم ومن ثم يُنتخب تلميذ بين الفينة والأخرى على أنه أفضل خلقا ومتابعة ودرجة من غيره من التلاميذ في المدرسة، ويقدم لنا كنموذج للاقتداء به.
وفي دروس الدين والتاريخ وأغلب العلوم الاجتماعية، وفي أغلب أقطار الدنيا تركز المناهج المدرسية منذ مراحل التعليم الابتدائي على شخصيات محددة تقدمها كنبراس ونموذج للأجيال الجديدة، كي تقتفي أثرها وسلوكها ونهجها للحفاظ على الهوية وغرس مبادئ الخير والأخلاق الحميدة ونبذ الشر والخلق غير الحسن.
المدرسة وسيلة واحدة - رغم أهميتها البالغة - في غرس بذرة الخير والأخلاق الحميدة. اليوم هناك وسائل كثيرة توظفها الأمم والمؤسسات والدول لتعزيز مسار الخير في حياتنا. هناك قنوات إعلامية - مرئية ومسموعة ومكتوبة - لا تكل ولا تمل ليل نهار في دعائها إلى ما تراه خيرا وصالحا، ونبذها ما تراه شرا وطالحا.
والدساتير والقوانين والمواثيق الخاصة بالدول المتعلقة منها بالإنسانية جمعاء منطلقها إنساني تنحو صوب الخير وتحاول إبعاد الشر قدر المستطاع.
مع كل هذه الحصانة التي نتحصن بها من خلال أدياننا وثقافتنا ومدرستنا وإعلامنا وغيرها، يبقى الشر متأصلا فينا شئنا أم أبينا. وتقريبا كل فرد ومجموعة وثقافة ودين ومذهب له أطنان من الوثائق عن الشر الذي اقترفه المختلف عنه، وأطنان من الوثائق عن الخير الذي وقع على يديه.
هذه طبيعة بشرية بل سليقة أشبعها الفلاسفة نقاشا وتحليلا ودراسة. وخلاصة هذه الدراسات تقول إن البشر ـــ أفرادا ومجموعات وثقافات وأديان ومذاهب وغيرها ـــ لا يتصورون فقط، بل يؤمنون إيمانا مطلقا بأن ما لديهم من ممارسات وأخلاق وكتب يرونها سماوية وأناس وتفاسير يضعونهم في مرتبة القداسة أو غيره ـــ هي الخير برمته وأن الشر متأصل فيما لدى الآخر.
وتخلص هذه الدراسات الفكرية إلى القول إن أساس الشر وبدايته هي مسألة خطاب (لغة). كل ثقافة ودين ومذهب ومنهج له أتباعه، وهؤلاء غالبا ما يوظفون خطابا ينتقص من المختلف عنه. انظر التعابير الكثيرة في الصحافة الغربية المسيئة للإسلام والمسلمين، وانظر التعابير الكثيرة في الصحافة العربية التي يسيء فيها أتباع المذهبين الإسلاميين الرئيسين إلى بعضهما بعضا.
الشر يبدأ من اللفظة أو العبارة أو الجملة التي نستخدمها كي نبرهن على أن ما لدينا هو الحق والحقيقة، وما لدى الآخر ليس باطلا لفظا فحسب، بل علينا التحقق من ذلك ممارسة ـــ باستخدام العنف مثلا. والمشكلة، بل المأساة، هي أن لكل واحد منا من خلال ثقافته ودينه ومذهبه ومنطلقه الفكري خزينا هائلا من الألفاظ التي تنتقص من الآخر.
هل هناك حل لهذه المشكلة الأزلية التي تعصف بالبشر؟ يقدم المفكرون حلولا كثيرة، ولكن أفضل وأنجع حل هو الذي يقدمه الفيلسوف جون ديوي، حيث يقول ما معناه إن ما لدينا مقدس وجميل ومحبب بألفاظه وممارساته، ولكن مهما كانت قدسيته وجماله لدينا لا حق لنا في فرضه على الآخرين المختلفين، عنا أو أن نسمح لأنفسنا بالتعامل معهم من خلاله، لأن ما لديهم هم أيضا مقدس وجميل ومحبب بالنسبة لهم بالقدر نفسه الذي لدينا.
هل يستطيع أن ينظر الواحد للآخر من خلال منظار جون ديوي للحياة؟