في التفكير الاستراتيجي
في التفكير الاستراتيجي عادة تطرح أفكار ضخمة تمثل أهدافاً كبيرة مع تصور لآليات يفترض أنها تسهم بشكل أو بآخر في تحقيق هذه الأهداف على أن هذه الأهداف ربما تحتاج إلى وقت طويل لتحقيقها يمتد لسنين أو عقود، إلا أن الفترة الزمنية ليست كافية وحدها لتحقيق الهدف الاستراتيجي، إذ لا بد من بيئة اجتماعية وثقافية وسياسية تهيئ الفرصة والمناخ المناسب الذي يقود إلى إحداث التغيير المحقق للهدف الاستراتيجي.
معظم دول العالم لديها خطط استراتيجية تعكس ملامح المستقبل الذي يؤمل الوصول إليه، وفي الغالب يتحقق التصور إذا توافرت الإمكانات المادية، والكفاءات البشرية المقتدرة على تنفيذ الخطط المعدة لإحداث التغير المنشود، إلا أن بعض المعوقات قد تعترض تحقيق التفكير الاستراتيجي كنقص الكوادر، أو التمويل، أو وجود عوائق ثقافية تعترض التغيير، وتقف في طريقه بحجة تعارضه مع العادات والتقاليد، أو نتيجة فهم خاطئ للمعتقد الذي يتبناه المجتمع، وبهدف حماية المجتمع، والمحافظة على مكوناته المتوارثة يكون الرفض والاحتجاج، وما تعليم البنات في المملكة إلا أحد نماذج التفكير الاستراتيجي الذي تبنته الدولة، لكن التفكير السائد في ذلك الوقت أسهم في محاولات إعاقته، ولولا وضوح التفكير الاستراتيجي للدولة، وجعل تعليم البنات إحدى قضاياها الكبرى التي تستهدف الانتقال بالمجتمع من حالة الجهل والركود إلى حالة الحيوية والنماء لربما بقي المجتمع في حالة ركود حتى الآن.
على الصعيد العالمي يوجد لدى الدول الكبرى تفكير استراتيجي شمولي يمكنها من التعامل مع دول بعينها، أو منطقة في العالم على اعتبارها منطقة لها نفوذ إما لموقعها الجغرافي أو لثرواتها، لذا يستهدف التفكير الاستراتيجي إشغال هذه الدولة، أو تلك المنطقة إما بخلافات وحروب بينية كما فعلت الدول الاستعمارية بمستعمراتها السابقة حين أبقت مواضيع حدودية محل إشكال، وذلك برسم خرائط حدودية متداخلة ومختلف عليها كما الحال في دول الخليج العربي التي ما فتئت الخلافات الحدودية تطل برأسها بين فينة وأخرى لتشكل بؤرة نزاع بين الدول تنعكس على العلاقات بين الدول وعلى سياساتها.
خلال فترة رئاسة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أطلقت وزيرة خارجيته كونداليزا رايس ما سمي في حينه الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط الجديد، ولو تأملنا في هذا الطرح الاستراتيجي لألفينا أن الوصول إلى هذا الهدف قد لا يتحقق في فترة وجيزة، بل يحتاج إلى مراحل يمر بها المشروع ومنها خلق أحداث وتوترات في المنطقة تباعد بين أبنائها، وتوجد حالة من التوجس، وعدم الثقة، بل الكراهية، ومن ثم الاحتراب، وفي الغالب تكون حكومات المنطقة وشعوبها الأدوات التي تنفذ من خلالها الاستراتيجية علمت، أو لم تعلم.
احتلال العراق، وما ترتب عليه من تفتيت للمجتمع العراقي في نسيجه الثقافي والاجتماعي والعرقي أحدث وضعاً جديداً جعل من العراق أشبه ما يكون بالولاية التابعة لإيران بما يعنيه ذلك من ولاء، وتبعية ليس على الصعيد المذهبي فقط، بل السياسات الإقليمية والعالمية، ولعل موقف الحكومة العراقية إزاء الثورة السورية وتبنيها الموقف الإيراني يكشف بجلاء التحول والتغير الذي أصاب المنطقة حتى إن البعض يتساءل هل لا يزال العراق عربياً أم أنه بدأ يشكل هوية جديدة تتداخل فيها عناصر اللغة والمذهب والمصالح السياسية؟
ما من شك أن التحولات التي شهدتها وتشهدها المجتمعات العربية والإسلامية كما هو الحال في أفغانستان وباكستان وفي دول الربيع العربي، تسهم بشكل أو بآخر في تحقيق فكرة الشرق الأوسط الجديد، الذي قد تضيع فيه ملامح دول أو تتغير، إضافة إلى التحالفات الجديدة التي بدأت تأخذ مكانها بين دول المنطقة، خاصة بعد الاتفاق الأمريكي - الإيراني، الذي أعاد تأهيل إيران لتلعب دور شرطي المنطقة، الذي كانت تمارسه في عصر الشاه. إن تسابق دول المنطقة نحو إيران لم يكن ليتحقق لولا تفكير استراتيجي مكنهم من إعادة بناء أنفسهم وطريقة تفكيرهم، واللعب بمختلف أوراق اللعبة مستغلين بطء وجمود تفكير الآخرين.