محنة فيروز..
في زمن عربي مشحون بالكراهية والعنف يفترض أن يكون الفن إكسير التسامح السحري وعقار الصفح وبلسم الغفران لكل هذه النفوس المعذبة بتناطح الغرائز فيها، المترنحة بترنح بوصلة ضمائرها، وهي تخبط في الدروب على غير هدى إزاء هذا الهولوكست العربي الرهيب!
وقد كانت فيروز، بفنها الشامخ وصوتها الملائكي توزع على الجميع هذا الإكسير وذاك العقار وذلك البلسم .. يصعدون مع ضوئها إلى بياض التسامح ونصاعة الغفران ونقاء البلسم .. لكن هذا الصوت الخارق الشاهق الذي نأى بنفسه، وحرص على أن يكون ما هو خاص به بعيداً عن مزاد السياسة، جاء من يزج به برعونة في مستنقعه .. ما يدل على أن صاحب هذه الرعونة ليس إلا طائش نزق ممتلئ بهوسه بذاته إلى حد النزوع المفرط لتحطيم ما لا يحطم، والتطاول على ما لا يطال من النماذج الكونية الاستثنائية النادرة، وفي صدارتها فيروز، تحت وهم أن يبقى هو النموذج الأوحد، مثله مثل هوس الطغاة من أجل هذا (الأوحد)!
ويا للمفارقة السوداء في أن يكون هذا الأرعن هو زياد الرحباني ابن السيدة فيروز .. الذي يبدو أن ملائكية صوتها ومناقبية نأيها بنفسها أججتا غيرته، فأقدم بعقوق سافر على انتهاك حرمة ما هو حق مقدس خالص لها، دافعا بها بوحشية وغلظة إلى مستنقع هذا المزاد السياسي القذر، عن سابق تصميم وتصور مع من طبخ له ومعه هذه الطبخة للتطاول عليها بتصريح غشيم نيابة عنها بأنها تحب حسن نصر الله ومعجبة به، وهي التي أمضت ثواني عمرها المديد تغزله ألقا وهاجا بلا شوائب، ليأتي هذا المخلوق ويسمم بشواط رائحة هذه الطبخة اللعينة الأجواء.
الذين قالوا إن لفيروز الحق في أن تحب أو تعجب بهذا الإنسان أو ذاك .. يقولون حقا يراد به باطل .. لأنهم يعرفون تمام المعرفة أن هذا الحق المقدس لم يعد حقا طالما تم انتهاكه رغما عنها .. وممن؟ من ابنها .. فماذا عساها تفعل أو تقول وقد نعق الغراب .. وهي التي ما عرفت إلا العندليب والبلبل والشحرور .. تعزف اسمها لحناً .. وتنقطه رحيقاً.
نعم .. لفيروز الحق فيما تراه ولها أن تختار ما تشاء من موقف .. لكن هذا الحق يخصها وحدها فقط .. ولها وحدها بالذات أن تفصح هي عنه متى وكيف تشاء وليس لأي كان ــــ مهما كان ــــ أن ينوب عنها .. كما لا يحق لأي أحد أن ينوب عنا في التعبير عن مواقفنا .. فكيف بها وقد تم الاعتداء على حق كانت طوال عمرها ضنينة به ربما حتى على خوالجها خشية أن تحمله ريح واشية على غير محمله؟!
إن مشكلة زياد الرحباني تتمثل في تحوله إلى أراجوز جوقة من حملة الشعارات البائدة، يسار فوضوي بفوضى يسارية .. ولم يكن هذا الفنان سوى قدرة لحنية باكرة، عرفه الناس بأغنية فيروز ''سألوني الناس عنك يا حبيبي'' التي تصور شعور فيروز بغياب زوجها عاصي لأول مرة عن عرض مسرحية المحطة إثر إصابته بانفجار في الدماغ. لكن زياد بعدئذٍ، ورط نفسه في مسرح خاص به، فرط النص فيه فرطاً سوقياً أقرب إلى التهريج مع تطعيمه بسخريات هامدة وقفشات أيديولوجية فجة حاملاً للسلم بالعرض .. وفي كل مرة تعرض مسرحية من مسرحياته ينبري أولئك الشعاريون للتطبيل، لكن مسرحه بالكاد يغادر طنطنات هذه الجوقة .. وقد ينجو من ذلك بعض أغنياته.
لقد استغلت الماكينة الإعلامية الشعاراتية المحيطة بزياد، غرائبيته وسطحيته ونزقه وأوهمته بأنه فعلاً ذلك النموذج الأوحد .. فتطاول على ما لا يطال إلا بتصريح خبيث شنيع كهذا .. جاعلاً في فم فيروز ماء وفي أخريات عمرها محنة!