حتى تشرب الغزال وتركض على الأرض
يحسب لجامعاتنا في السنوات القليلة الماضية أنها بدأت تحاول أبراز بعض منتجاتها العلمية، وعرض ما توصلت إليه بعض أقسامها أو كلياتها العلمية من تطوير لمخترعات أو تصنيع محركات ونحو ذلك، وعلى الرغم من محدودية مثل هذه المنتجات وبساطتها، إلا أنه يفترض أن نشجعها ونعمل على استمراريتها وتطويرها، لعلها تقودنا إلى ما هو أهم منها وما يلبي حاجتنا وظروف بيئتنا.
لقد احتفت وسائل الإعلام في فترة سابقة بمشروع السيارة "غزال"، الذي أعلنت عنه جامعة الملك سعود بالرياض قبل سنوات، مثلما احتفت بمشروع مصنع سيارة لاند روفر، الذي عد أحد منجزات تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للصناعة. وليس هدف هذا المقال الحديث عن السيارة الغزال وكيف صنعت أو جمعت، ولا عن مشروع مصنع سيارات اللاند روفر وأهميته، لكن ليكون ذلك مدخلاً لموضوع هذا المقال، ومن المشروعين أشتق عنوانه، "حتى تشرب الغزال وتركض على الأرض".
كم سيكون من المفيد والحيوي أن تحدد جامعاتنا ومراكز البحوث العلمية في جامعات المملكة أولوياتها البحثية بما يتفق مع متطلباتنا وحاجاتنا الفعلية والملحة، وإذا كنا نستطيع أن نستورد ملايين السيارات والمحركات، أو نعيش بوجود عدد محدود منها، وأن توقف تصنيعها أو منع استيرادها لن يمثل مشكلة كبرى تهدد أمننا الوطني، أو تجعل من بلادنا رهينة للظروف والمشكلات الدولية والإقليمية المحيطة بنا، فإننا بالتأكيد نعاني قضايا ومشكلات نحتاج إلى عمل جاد لمحاولة حلها ومعالجتها عن طريق تركيز أبحاثنا ومشاريعنا التصنيعية نحوها.
وحتى تتمكن (الغزال) من العيش والتكاثر والبقاء في بيئتها فهي تحتاج إلى الماء والكلأ، وتأمين أمنها المائي والغذائي، وهذا هو ما يحتاج إليه الإنسان الذي سوف يرعى هذه الغزال أو يسرح بها، وحتى ذلك الذي يسعى للتمتع بمطاردتها وصيدها.
إن من الأولويات التي يحتاج إليها مواطن هذه الصحارى هو تحقيق أمنه المائي والغذائي أولاً، ومن ثم البحث عن الكماليات الأخرى. إن تأمين الماء والغذاء، والبحث العلمي والعملي الجاد عن حلول لذلك، هو ما يفترض أن تركز عليه جامعاتنا ومراكز البحوث العلمية في الوقت الحاضر. وقد كشفت بعض الأحداث البيئية التي شهدتها بعض مناطق العالم خلال الأعوام القليلة الماضية حجم المشكلة والمعاناة التي يمكن أن تواجهها بعض الدول التي تعتمد على منتجات غذائية مستوردة، مثلما حدث في روسيا قبل سنوات، التي كادت أن تمنع تصدير القمح للدول المستوردة حتى تلك التي بينها وبين روسيا اتفاقيات تجارية بهذا الشأن، وكم تعاني بلادنا كل عام من مشكلة وقضية موسمية ومتكررة تتعلق بالشعير وما يسببه ذلك من قلق لمربي المواشي، ويندرج ضمن ذلك أسعار الأرز وما يحدث لها بين فينة وأخرى حتى كدنا نصبح أسرى لمنتجي هذه المواد الغذائية الحيوية.
توافر الأمن المائي سوف يسهم في حل بعض مشكلات الأمن الغذائي، ولهذا فإن المطلب الملح هو أن تسعى جامعتنا للتركيز البحثي على قضايا المياه، ليس مشكلة نقصها أو تزايد كميات استهلاكها نتيجة زيادة السكان وارتفاع مستويات المعيشة، فهذه أمور معروفة ومشخصة ومفروغ منها، بل البحث عن حلول علمية عملية واقتصادية لتطوير مصادر إنتاج المياه.
ماذا لو قامت وزراة التعليم العالي، بالتنسيق مع الجهات الأخرى ذات العلاقة وعلى رأسها وزارة التجارة والصناعة، ووزارة المياه والكهرباء، بالعمل على وضع استراتيجية وطنية لإنشاء مراكز بحثية وتقنية متقدمة لإبحاث المياه في عدد من الجامعات، بحيث يتخصص كل مركز في قضية من قضايا المياه، من ذلك مثلاً:
- تتخصص إحدى الجامعات أو المراكز في تصنيع وتطوير تقنية تحلية المياه المالحة، فالمملكة أكبر دولة في العالم في إنتاج المياه المحلاة، وكم نحن بحاجة إلى تطوير صناعة وتقنية محلية. وقد تتوصل مثل هذه المراكز البحثية إلى تقنيات جديدة ورخيصة، وصديقة للبيئة، تمكننا من نشر محطات التحلية على امتداد سواحل المملكة شرقاً وغرباً، مثلما تجعلنا نحلم ونتخيل ليس فقط بمجرد استخدام المياه المحلاة في الاستخدام المنزلي، بل في الاستخدمات الأخرى، ومنها الزراعة. وتتخصص جامعة أخرى في تصنيع وتطوير تقنيات الري وترشيد استهلاك المياه، بما يتلاءم مع بيئتنا المحلية. وتتخصص ثالثة في تصنيع وتطوير تقنيات حفر واستخراج المياه الجوفية، وسبل المحافظة عليها، وتتخصص جامعة رابعة في تطوير تقنيات تغذية الطبقات الحاملة للمياه الجوفية بمياه الأمطار، وخامسة في أفضل وسائل حفظ المياه وتخزينها، مثل تنفيذ أماكن خزن استراتيجي واحتياطي للمياه ... وهكذا.
ومقابل فقرنا المائي، حبانا الله بمخزون كبير من النفط، جعلنا أكبر دولة مصدرة للنفط خلال العقود الماضية، وأرى أن يكون هناك نوع من المقايضة بين النفط والماء، بمعنى أن يتم اقتطاع دولار واحد من قيمة كل برميل نفط، ويخصص المبلغ لمراكز دراسات وأبحاث المياه وتطوير التقنيات والصناعات الخاصة بذلك. لو حسبنا متوسط إنتاجنا اليومي من النفط وهو في حدود ثمانية ملايين برميل، فيعني ذلك أن الحصيلة السنوية سوف تناهز ثلاثة مليارات دولار، وهو مبلغ كبير جداً يمكن أن يعمل فيه كثير من النتائج العلمية والعملية، وبناء المصانع، في حال توافرت الإدارة والإرادة، والأمانة، وتم وضع أسس وضوابط عمل وصرف قوية، لا تجعل من هذه الميزانية، هدفاً بحد ذاتها، أو أن يكون هدف مثل هذه المراكز التنافس للحصول على ميزانية أكبر من غيرها، أو كيفية صرفها والتصرف بها، إلى غير ذلك، التي تجعل بعض مؤسساتنا ومراكز أبحاثنا تبحث عن وسيلة كسب المال وصرف ميزانياتها، وتوزيع مخصصاتها، قبل أن تهتم بمنتجاتها ومخرجاتها العلمية.