«الواسطة» .. فساد بامتياز
لا أحد في المملكة يشك في أن ''الواسطة'' من أكثر مظاهر الفساد انتشارا لدينا، لذلك لم تكن تلك النتيجة التي توصلت إليها دراسة نشرت أخيرا في منتدى الرياض الاقتصادي مفاجئة لأحد، قد يكون الجدلي في الأمر أن الدراسة أظهرت أن الفساد الناتج عن ''الواسطة'' أكثر من ذلك الناتج عن إساءة استخدام النفوذ، لكن في الواقع فإن الواسطة مظهر من مظاهر إساءة استخدام النفوذ؛ هذه هي الجدلية، وإذا تم تجاوز هذه الإشكالية فإن تشخيص الواسطة كقضية فساد يحتاج إلى مزيد من الاستجلاء، فـ ''الواسطة'' التي تأخذ الحق من صاحبه وتعطيه لغيره هي صورة جلية من أخطر أنواع الفساد، وبالتأكيد لا يستطيع أن يقوم بها إلا من لديه نفوذ وسلطة، ولذلك فإن الواسطة صورة من صور إساءة استخدام السلطة في هذا الجانب. لكن هناك نوع آخر من الواسطة يتمثل في وصول مستحق إلى حقه، وهذه الصورة الأخرى لعلها أقل خطرا من الصورة السابقة، لكنها برغم ذلك تشير أيضا إلى نوع من أنواع الفساد. فالمستحق الذي يتم منعه من الوصول إلى حقه بطريقة مباشرة وقانونية، بينما يصل إليه من باب المجاملات والعلاقات وتبادل المصالح هي قضية فساد بلا شك.
إذاً فالواسطة لها أوجه عدة، لكنها تجتمع في صفات معينة، أولاها أن تلك الصور جميعها تمثل إساءة استخدام السلطة، فصاحب القرار يستخدم هذه السلطة وما منحه النظام من سيطرة على حقوق الناس في منع تلك الحقوق عن مستحقيها، ثم لا يمنحها إياهم إلا من خلال علاقات جانبية تضمن له الحصول على منافع في إدارات أو جهات أخرى، والثانية أن التعويض المتبادل في ''الواسطة'' ليس مالياً، بل هو خدمات أخرى في مقابل تلك الخدمات، وهنا تكمن المشكلة التي تجعل البعض يظن أن الواسطة ليست صورة من صور الفساد، فالمفسد في نظر المجتمع يسعى للحصول على منافع مادية مباشرة من خلال إساءة استخدام سلطته، لكن في الواسطة فلا منافع مادية ظاهرية بل مجرد خدمات بلا مقابل ظاهري. الصفة الثالثة في الواسطة أنها تمنع وتمنح الحقوق والخدمات بطريقة غير نظامية أو تتجاوز النظام في منحها، سواء كان الحاصل على هذه الحقوق والخدمات ممن يستحقها أو ممن لا يستحقها، وهنا الأمر سواء، فالمشكلة في أن الواسطة تعطل النظام وتعمل على إفشاله إلا من خلال صاحب الصلاحية، وهذا بالتالي يقلل من هيبته وحضوره في الناس، ولهذا كثيرا ما نسمع تذمر الناس من النظام في الجهات التي تخترقها ''الواسطة''.
تعمل ''الواسطة'' دائما في الجهات التي يستطيع فيها صاحب القرار أن يتجاوز نظم الرقابة، أو يعطلها، وهذا يحدث عندما يصمم النظام الرقابي بطريقة تمنح شخصا أو عددا من الأشخاص صلاحيات الاستثناء، أو صلاحيات فوق النظام الرقابي؛ كأن يتجاوز التوقيعات أو النماذج أو الصلاحيات التي تخص موظفين أقل منصبا، فجميع هذه المراحل الرقابية يمكن تجاوزها من خلال أمر أو من خلال ما أصبح يعرف ''بتوجيه من صاحب الصلاحية''. ولعل ما يميز تلك الجهات التي تنتشر فيها ''الواسطة'' انتشار هذا المصطلح فيها، فكلما سمعنا عن توجيه من صاحب الصلاحية تمثل لنا شبح ''الواسطة'' وبدأ الطلب على خدماته. فالقضية في ''الواسطة'' هي قضية تصميم النظام، وحلها بالتالي يعود إلى مكمنها، فلا بد من تقليل القدرة على الاستثناء، ولا بد من جهات مستقلة، هدفها التأكد من جودة نظم الرقابة وأنها مطبقة وألا أحد بمفرده قادر على تعطيل النظام أو تجاوزه.