مركزية القرار .. أغرقت المدن

لماذا غرقت المدن جراء أمطار موسمية تتكرر في كل عام؟ هذا التساؤل يدور في ذهن المواطن مندهشاً كيف يحدث ذلك على الرغم من المخصصات المالية الضخمة ذات الأرقام الفلكية التي يعجز عن قراءتها! إنه أمر مؤسف أن تكون لدينا خطط خمسية ووزارة معنية بالاقتصاد والتخطيط ومجالس مناطق ومجالس محلية وبلدية ومع ذلك نعجز عن الاستعداد لمواجهة زخات مطر موسمية!
البعض يعزو ذلك إلى الفساد الإداري والمالي، وقد يكون محقاً في ذلك، لكن لماذا الفساد الإداري والمالي؟! تساؤل يقود إلى تساؤل آخر لا يقل أهمية وهو: من المسؤول عن تلك المشكلة؟ الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلب تناول قضية غرق المدن بنظرة واسعة وإطار أشمل وتحليل أعمق حتى نصل إلى فهم واضح لأبعاد المشكلة، ومن ثم وضع تصورات مستقبلية لما يجب عمله. الإجابة عن تلك التساؤلات تدور في فلك أسلوب صناعة القرار العام، وهي تستوجب مساحة كبيرة من الشفافية وحرية التعبير، والأهم تقبل الآراء بعقلية منفتحة وفهم صحيح، وأن مصلحة الوطن فوق كل الاعتبارات الجهوية والمصالح الشخصية الضيقة. المشكلة في مناقشة مثل هذه المواضيع هي في التطرف البغيض بين مكابر يرفض الاعتراف بالخطأ وآخر يشخص الأمور ويستغلها للانتقام وإبراز الجانب السيئ وليس للانتقاد بهدف التطوير والإصلاح. لا شك أن هناك قصورا ومشكلات، وهو ما يستوجب التصدي لها ومعالجتها وليس غض الطرف عنها وكأنها لم تحدث أو على النقيض الآخر في المسارعة إلى التشفي بإثبات أخطاء الآخرين والتقليل من قدرهم. يجب أن نفهم أن الحياة تجارب وأن المجتمعات الناجحة هي التي تخوض تجارب جديدة بمبادرات جريئة بحثاً عن الأفضل، وهذا لا يتأتى إلا بقدر كبير من الشفافية، واستعداد الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على معرفة الأخطاء، وجرأة الاعتراف بها، والعزيمة على تصحيحها. كذلك لابد من إدراك أن القرار الحكومي يهدف إلى تحقيق الصالح العام، ما يعني أن مساحة الاختلاف في الرأي واسعة؛ وبالتالي لابد من إيجاد وسيلة فاعلة للتوصل إلى قرار مجتمعي توافقي وفي الوقت ذاته ذي كفاءة اقتصادية، وهو أمر قد يكون صعباً؛ بل مستحيلاً في كثير من الأحيان، إلا أنه يظل السبيل الوحيد للوصول إلى القرار الجماعي. هذا يحتم البحث عن أفضل طريقة لصناعة القرار العام بما يحقق الاستجابة لاحتياجات وتطلعات المواطنين قدر الإمكان. وتعني الاستجابة لمتطلبات المواطنين توفير الخدمات، وسن التشريعات، وصياغة الاستراتيجيات، ومعالجة المشكلات وفق ما يرونه وبالطريقة التي تناسبهم، وليس كما يراها البيروقراطيون في الهيئات المركزية. ومن هنا يمكن القول إنه كلما اقترب صانع القرار من المواطن كان أجدر على تحقيق ذلك، والعكس صحيح. وهذا يعني تطبيق نهج اللامركزية ومنح المجالس المحلية صلاحيات إدارية ومالية. فالهيئات المحلية أكثر قرباً ودرايةً وحرصاً على تحقيق مصالح المجتمع المحلي. كما أن المجتمعات المحلية الصغيرة تكون أكثر لحُمةً وتعاوناً وتكاتفاً وإسهاماً في التنمية المحلية، ويكون من السهل إدارتها وتحقيق متطلباتها. وهكذا نجد أن أعضاء المجالس المحلية أكثر قرباً من المواطن، يعايشون أوضاعه، ويتفهمون مشاكله، ويشتركون معه في الرؤية المستقبلية للمجتمع المحلي.
إلا أنه مع الأسف، الوضع الإداري الراهن لا يتفق تماماً مع هذه النظرة؛ فمركزية القرار العام، وسيطرة البيروقراطيات العامة أديا إلى تكون ثقافة مجتمعية سلبية مضمونها أن الجهاز الحكومي يعطي والمواطن يأخذ! هذا الاتصال ذو الاتجاه الواحد يمنح البيروقراطيين شعورا بالفوقية، والتعالي على المواطنين على الرغم من أنهم يعملون تحت مظلة نظام الخدمة المدنية ''أي خدمة الناس''. هذه النظرة الدونية للمستفيدين من الخدمة ''المواطنين'' تأتي من أن البيروقراطيين في الجهات المركزية يرون من زاوية تخصصاتهم الفنية والعلمية وخبراتهم العملية أنهم أكثر فهماً وإدراكاً من المواطن ذاته؛ مما يحول دون رؤيتهم للاحتياجات الحقيقية له، واستيعاب ظروف المجتمعات المحلية التي هي بعيدة عنهم جغرافياً ولا تستحوذ على اهتماماتهم. التداعيات السلبية للمركزية لا تقف عند هذا الحد، وإنما تتعداه إلى ما هو أكثر خطورة على المجتمع المحلي. فتطبيق المركزية أدى إلى إشكاليات ومعاناة تتعلق بمستوى جودة وصلاحية المشاريع العامة؛ فها هي المدن تغرق، وتتهدم الجسور والطرق، ويتعرض الناس للخطر بسبب أمطار موسمية. وهذا ناتج عن سوء التخطيط والتنفيذ من قبل الأجهزة المركزية. وكيف للأجهزة المركزية أن تمارس التخطيط والتنفيذ، وهي بعيدة جغرافياً وموضوعياً عن الشأن المحلي؟! إن الهيئات المركزية معنية بالشأن الوطني الذي يغطي فيه أثر القرار مساحة الدولة أو معظمها، ولا يمكن أن نتصور مع حجم مسؤولياتها أن باستطاعتها الالتفات إلى المشكلات على مستوى المنطقة أو المحليات وإلا كان ذلك على حساب القضايا الكبرى والاستراتيجيات الوطنية. إن من الصعب على الهيئات المركزية متابعة المشاريع المحلية بأدق تفاصيلها من التخطيط إلى التنفيذ وحتى تسليم المشروع. وإذا كان المشروع يقام في المحليات فمن الطبيعي والأجدى إدارته من قبل الهيئات المحلية وجعلها تتحمل مسؤولية تنفيذه وتشغيله، وليس من قبل الهيئات المركزية البعيدة التي تضطر إلى اتباع أسلوب ''مركزية القرار محلية التنفيذ''. وهكذا تنشأ الفجوة بين التخطيط والتنفيذ والتشغيل. فالهيئات المركزية تقوم بتفويض مهمة الإشراف الشكلي البيروقراطي لفروعها في المحليات، بينما كان من الأجدى قيام المجالس النيابية المحلية بذلك ''المجالس البلدية ومجالس المناطق'' لأنها هي المنوط بها مسؤولية تمثيل الناس وتوجيه ومراقبة الأجهزة التنفيذية ''نظرياً على الأقل'' بهدف الاستجابة لمتطلباتهم وتطلعاتهم، والأهم المساءلة لها من قبلهم. إن الهيئات المحلية هي الأكثر قرباً ودراية وحرصاً على رعاية مصالح السكان، وهي من يُفترض أن يتحمل مسؤولية التخطيط التنموي في المنطقة أو المدينة. لقد أدى نظام المركزية وتعدد المرجعيات إلى وضع إداري ضبابي، حيث لا يمكن معه تحديد من المسؤول؟! وإذا لم يتم تحديد المسؤول لا يمكن محاسبة أحد! وإذا لم يُحاسب أحد، لا يمكن وقف الفساد المالي والإداري، وستتكرر المشكلة ذاتها سنوياً دون معالجة جذرية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي