تكفير الذنوب بعدما انكشفت العيوب
اللهم اجعله صيباً نافعاً، كانت الكلمة الأكثر تداولاً أول النهار عندما شاهدنا الأمطار في مناطق الشمال والجنوب. ثم تحول الدعاء إلى اللهم حوالينا لا علينا أوسطه، في آخر الليل بدأ الناس يدعون بالستر والحفظ، بل وصلتني رسائل تقول: اللهم إنا استودعناك أهلنا في الرياض، ولا ملامة على كل من يكتب، فقد رأوا مناظر الأنفاق وهي تغوص تحت الماء، ولعل الجميع شاهد مناظر انهيار الأسقف ودخول المياه إلى المنازل.
لم يخل المشهد من النكات والطرائف التي تميز الشعب السعودي الساخر، ولعل من أكثر ما شاهدت من المقاطع الساخرة ما تعلق بالبنية التحتية التي نشكو منها جميعاً، ولعل أحدهم قال في مكان ما: إن الاعتقاد السائد لدى مهندسينا أن المطر حالة شاذة لا يمكن اعتبارها أساساً في وضع المواصفات للمباني والمنشآت العامة. طالت السخرية كل شيء من تحذيرات الهيئة العامة للأرصاد إلى استعدادات الدفاع المدني، وصورة الإثيوبيين المخالفين وهم يراقبون الأمطار من على مباني جامعة الأميرة نورة، وصولاً إلى تنظيم مؤتمر منظمة الطرق العالمية الذي تزامن مع توقف الحركة في طرق الرياض. ثم ارتفاع نسبة المشاهدة لقناة الإخبارية انتظاراً للفرج وتعليق الدراسة وهو ما كان.
يتكون المشهد العام هذه الأيام من مجموعة من التجاذبات التي تسيطر على اهتمامات الناس. مشكلة العمالة المخالفة والمهربة خصوصاً، مثل الإثيوبيين وردة فعلهم تجاه قرار التصحيح سواء في التظاهر أمام سفارات المملكة في الخارج أو إنتاج فيلم يسيء إلى البلد الذي استضافهم، واعتبروه جحيماً. فما الذي يدفع الناس للبقاء في الجحيم، اخرجوا يا رعاكم الله إلى الجنة التي تنتظركم. زاد الطين بلة مقطع آخر يتحدث فيه شخص من دولة شقيقة عن دور أبناء جلدته في صناعة المملكة وبنائها وعمارة اقتصادها، ولو أنه فكر فيما يقول لوجد أنه ومن معه استفادوا من هذا الاقتصاد وعمروا أرضهم ولم يعملوا يوماً واحداً دون أن يأخذوا أجره مضاعفاً في أحيان كثيرة.
يذكرني هذا الحال بأولئك الذين ينسبون لأنفسهم الفضل ويطيلون في مدح إخلاصهم وولائهم وإنجازاتهم في مواقع عملهم، أولئك الذين ما إن تسألهم هل عملت يوماً دون أجر؟ غضبوا وأدخلوا النقاش في عتمة الغضب والانفعال. نظريتي أنه لا يحق لأحد أن يعتقد أن له فضلاً على البلد، بل الفضل للوطن علينا جميعاً. أنت تعمل بمقابل وهذا المقابل لو وجدت أفضل منه لذهبت إليه، إذاً ليس لك فضل.
يمكن لأشخاص بعينهم أن يتحدثوا عندما يكونون أولي فضل فعلاً، كمن يأتي بأموال جمعها في الخارج فينفقها على المستشفيات الخيرية وجمعيات البر والمساجد والمعاهد. أما إن كان جمعها من هذا البلد، فهو مدين للبلد بكل ما كسبه في سوقه وأسهمه ومقاولاته ومصانعه. هذا إذا لم ننظر إلى القروض السخية التي حصل عليها من الدولة.
أعود لما يدور هذه الأيام في الساحة، وقد خبت الأزمات السياسية التي طغت عليها أخبار الأمطار، وما طال الناس من أخطار في أثنائها وبعدها. الحديث الدائم الذي يسيطر على المجالس ومواقع التواصل هو الحديث عن الاستعداد والبنية التحتية والإجراءات الاحترازية. هذا الحديث ما يلبث أن يضمحل ما أن تشرق شمس يوم ما بعد الأمطار. فينسى الجميع ما كان، ويتوجهون إلى ''الطعوس'' للاستمتاع بالأجواء ومراقبة هوس الشباب والشياب بـ ''التطعيس''. تنتهي المشكلة ولا نتعلم منها.
كتبت ذات يوم أن النجاح هو نتيجة البناء على الخبرات السابقة كأساس للمستقبل، إن تكرار المشكلة هو الدليل الأبلج على أن الإدارة في حالة من الكساد بل الفساد. امتدحت حينها ما يقوم به أمير منطقة مكة المكرمة من جمع لكل مسؤولي لجان الحج عقب انتهاء الموسم بأيام، إذ يبسطون على طاولة النقاش كل العيوب والمشكلات والنجاحات ثم ينطلقون من نقطة لا يعودون إليها أبداً. حالة لا تنطبق على أغلبية متخذي القرار في الوزارات والهيئات العامة والبلديات والمؤسسات. لذلك شاهدنا نجاحات متتالية تحققها خطط الحج، المهم أن المشكلة لا تتكرر أبداً.
يصل بنا الحديث الآن إلى قضية التكفير عن الذنوب، وأول شروط تكفير الذنوب هو الاعتراف بها. لعل المشهد العام اليوم يدفعني للمطالبة بتكفير الذنوب من قبلنا نحن المواطنين. المواطن الذي يتحدث عن فشل المشاريع هو مواطن يعمل في جزء آخر من الوطن، ويعيش قطاعه مشاريع متعثرة أو فاشلة. ذلك الذي يتحدث عن التراخي في التعامل مع مشكلة تكدس العمالة هو الآخر يوظف خادمة إثيوبية أو يشغل إثيوبياً في بيته أو مزرعته أو محله.
أدعو الجميع إلى مراقبة الذات، وإصلاح ما بيننا وبين ربنا ووطننا ومجتمعنا لنحقق الفلاح، وتنتهي كل مشكلاتنا، وهو مصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم: ''عليك نفسك''.