ظرف الانتقال العسير
الاضطراب السياسي الذي شهده العالم العربي خلال السنوات القليلة الماضية، كشف عن عيوب جوهرية في بنية النظام العربي، أبرزها هو انحدار مستوى الإجماع الوطني، أي توافق الجمهور والقوى الاجتماعية النخبة السياسية، على طبيعة النظام القائم واستهدافاته ومصادر شرعيته وفلسفة عمله والطرق القانونية التي يلجأ إليها الفرقاء لإدارة التعارض بين مصالحهم وحل اختلافاتهم.
يعتقد ديفيد هيلد أن تيار التحديث يقود غالبا إلى تغيير في توزيع مصادر القوة، قيمة الفاعلين السياسيين، منظومات القيم، والثقافة السياسية، وتبعا لذلك تدهور مقومات الإجماع الموروث. وفي المرحلة الانتقالية، تتبلور هذه التحولات على شكل انقسامات جديدة، أو اكتساب الانقسامات التقليدية مضمونا سياسيا. هذا يستدعي بذل جهد استثنائي لإعادة توليد الإجماع ضمن مدى زمني ملائم، بالاعتماد على الطبقات الحديثة. تتسم المرحلة الانتقالية بكثرة الالتباسات والتحولات الحياتية والقيمية، التي تجعل النظام السياسي والاجتماعي برمته على المحك. ويتماثل هذا الاستنتاج مع راي ليونارد بيندر الذي رأى أن قلة اهتمام دول العالم الثالث باستيعاب القوى الجديدة وتطوير أطر العمل السياسي الديمقراطي، قد أدى غالبا إلى تباين قيمي وسلوكي، انكماش وسائط التفاهم بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، واتساع الفاصل الطبقي، إضافة إلى تفارق تقنيات العمل السياسي بين الطبقات الحديثة والتقليدية.
ليس مهما الآن التساؤل عن العوامل الأكثر تأثيرا في توليد تلك الفوضى. الواقع الذي أمامنا يقول إن جانبا مهما من إخفاقات الدولة العربية خلال الحقبة الأخيرة، سواء في مجال التنمية الاقتصادية أو السياسية، يرجع إلى انكسار الإجماع القديم، وعجز المجتمع السياسي عن توليد عقد اجتماعي جديد، أي إجماع جديد على طبيعة النظام واستهدافاته والقيم الكبرى الناظمة لحركته.
في ظل الانقسام فإن كلا من المجتمع والدولة ينطلق في مواقفه وعمله من مبررات متفاوتة وأحيانا متعارضة. النظام السياسي الذي يفتقر إلى الإجماع سيكون ــــ بالضرورة ــــ فوضويا، باهت السمات وعديم الاستقرار. ما يميز الأنظمة السياسية المتقدمة ــــ حسب رأي ليونارد بيندر ــــ هو قيامها على إجماع ثقافي تاريخي يضمن الاستقرار والتواصل. إعادة بناء الإجماع الوطني المستقر والفعال، يتوقف على تفاهمات أولية تؤكد مفهوم المواطنة وسيادة القانون كمرجع أعلى للعلاقة بين أطراف المجتمع الوطني. تفاهمات كهذه يمكن أن تمثل منطلقا، لكن الوصول إلى الغاية النهائية يحتاج إلى استراتيجية متعددة الأبعاد تبدأ من التعليم، لكنها تتناول أيضا تقريب مستويات التنمية وتعزيز التواصل بين أطراف البلد، فضلا عن إيجاد صيغة مناسبة للتشابك بين الهويات المحلية والهوية الوطنية الجامعة.