دور الحكم الرشيد في ازدهار اقتصاد المعرفة

المعرفة هي الخبرات والمهارات المكتسبة خلال التجربة أو التعليم. وتتميز بـأنها حق مشاع للجميع وليست محصورة بفئة دون غيرها، فالكل يستطيع أن يفكر ويطور معرفته حسب تخصصه. ولأهمية المعرفة كانت وما زالت حجر الأساس في ازدهار الحضارات وتطور المجتمعات الإنسانية.
ومع اتساع استخدام الشبكات وقواعد البيانات والتجارة الإلكترونية، تحولت الأصول المهمة في الاقتصاد من ''الأرض والعمالة ورأس المال'' إلى المعرفة التي توفرها تقنية المعلومات الحديثة للإنسان المؤهل الراشد الذي يستطيع اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. وحيث إن المستفيدين من هذا الاقتصاد الذي سمي ''اقتصاد المعرفة'' هم ''مؤسسات الدولة ومؤسسات قطاع الأعمال ومنظمات المجتمع المدني''، لذلك لا بد من تكوين مجتمع المعرفة الذي يصبح فيه الفرد راشداً والمؤسسة راشدة والدولة راشدة ليكون قاعدة لانطلاق وتطور اقتصاد المعرفة.
لقد نشأ اقتصاد المعرفة في كنف العولمة التي تعتبر عملية اقتصادية في المقام الأول. وفتح هذا الاقتصاد الجديد للمجتمعات معطيات جديدة، تتطلب تغييرات جوهرية تتلاءم وتتناسب مع هذه المعطيات. وبما أن الإنسان هو رأس المال في اقتصاد المعرفة، فإن التحدي الكبير الذي تواجهه التنمية الإنسانية هو قدرة المجتمعات على الاعتراف في الوقت المناسب بمتطلبات التغيير. وتنامى مع هذا التحدي قلق عالمي حول طبيعة السيطرة على الموارد الاقتصادية والاجتماعية، ونتج عن ذلك مطالبات دولية بإصلاح الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية حول العالم تحت شعار ''الحكم الرشيد'' الذي يتم تطبيقه عبر مجموعة من القوانين والأنظمة التي تؤدي إلى الشفافية والعدل وتحسين الكفاءة والمساءلة.
وفي أدبيات منظمة الأمم المتحدة يقاس رشد الحكم بعدة معايير أهمها مقدار درجة الشفافية التي تتسم بها مؤسسات البلاد وعملياتها. ولكن -إلى عهد قريب- تم اختزال مفهوم الحكم الرشيد في ممارسات السلطة السياسية فقط وإهمال الأطراف الأخرى في مؤسسات الحكم الرشيد بمفهومه الشامل التي تضم ''الدولة وقطاع الأعمال والمجتمع المدني''، على الرغم من وجود روابط وثيقة بين تلك المؤسسات، من أهمها العدل باعتباره أساسا للحكم الرشيد ويقود إلى الازدهار الاقتصادي والأمن الاجتماعي. لذلك ظهر مفهوم ''توجيه قوى الأسواق من أجل دعم المثل العالمية'' لربط الحكم الرشيد بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، وذلك باحترام القيم العالمية حول حقوق الإنسان والبيئة والتمييز. ومع تصاعد قضايا الفساد في كبريات الشركات العالمية، بدأت الدعوة لتطبيق الحكم الرشيد في إدارة الشركات، وذلك من أجل معالجة مشكلات سوء إدارة الشركات والحد من فسادها، وسمي هذا المفهوم بالحوكمة. وقد اكتسب أهمية كبرى بالنسبة لدول العالم الثالث، نظرا لضعف النظام القضائي وصعوبة حل المنازعات التجارية بطريقة عادلة.
وقد أكد تقرير البنك الدولي لهذا العام أن اقتصاد المعرفة يتطلب تنفيذ عدد من الإصلاحات الهيكلية وتبني سياسات تؤدي إلى خلق بيئة محفزة لنمو اقتصادي أكبر وأكثر استدامة وجاذب للاستثمارات الاقتصادية ومشجع على تبادل المعرفة والابتكار. كما حض حكومات الشرق الأوسط على توفير الظروف المناسبة لذلك. وللأسف، حتى اليوم هناك مجتمعات فشلت في إيجاد بيئة لكسب المعرفة وتبادل الخبرات وتطور الإبداع والابتكار، لأنها لم تتغلب على جمود التفكير وعراقيل وقيود الأنظمة لديها ومكافحة الفساد المالي والإداري.
وتعتبر الأمم المتحدة أن استشراء الفساد أحد الأخطار لتقويض مؤسسات الحكم الرشيد، ودليل على سوء الإدارة، ومؤشر على ضعف وتخلف المجتمع المدني، لأنه يؤدي إلى اختلال الأمن الاجتماعي والاقتصادي وانعدام المساواة وإجهاض فرص الشفافية والمشاركة والحياة الكريمة. وثبت أنه أحد العوائق الرئيسة للتنمية في العصر الحديث، لذلك أبرمت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في عام 2003 كأول أداة ملزمة قانونياً لمكافحة الفساد عالميا. وقد صادقت عليها المملكة في نيسان (أبريل) 2013، وبذلك أصبحت واجبة التنفيذ. وتلزم الاتفاقية الدول الأطراف بتنفيذ مجموعة واسعة من التدابير المتعلقة بمكافحة الفساد ومن أهمها المعايير الوقائية. حيث أشارت الاتفاقية إلى أن الفساد يمكن ملاحقته بعد وقوعه، ولكن يتطلب الوقاية منه بوضع وتنفيذ وترسيخ سياسات فعالة ومنسقة لمكافحته من شأنها تعزيز مشاركة المجتمع وتجسد مبادئ سيادة القانون، والإدارة السليمة للشؤون والممتلكات العامة، والنزاهة، والشفافية، والمساءلة.
ويمكن تلخيص إرشادات تحجيم الفساد في ثلاثة محاور: الأول: تنمية الشعور بالمسؤولية لدى المواطنين التي تشعل روح المواطنة الصالحة النزيهة. والثاني: تنمية دور المجتمع المدني، والمجالس، والأوساط الأكاديمية، والجمعيات المهنية التي ترشد وتراقب وتمنع أن تكون الساحة السياسية والاقتصادية محتكرة وسوقا سوداء للأغنياء والأقوياء فقط. والثالث: دعم مؤسسات الحكم الرشيد من خلال: (1) القيادة المؤهلة التي تتمتع بأخلاقيات عالية للمساهمة في تحسين ظروف مجتمعاتهم. ومن أفضل الحلول الناجحة في هذا المجال استقطاب ذوي الخلفية التقنية والتطبيق المنهجي العلمي في تحليل المشكلات وتقديم الحلول الكاملة لها. (2) الجدية في مكافحة الفساد الذي يتسبب في تشوهات النظام الاقتصادي والاجتماعي ومصدرا للتوتر والصراعات والإحباط وانتشار البطالة وسوء الخدمات وتدهور نوعية الحياة. ومن حلول الأمم المتحدة لذلك إبعاد الفاسدين من أصحاب المناصب العامة ونشر ثقافة النزاهة في المجتمع وتبسيط الإجراءات الإدارية عند الاقتضاء، وتيسير وصول الناس إلى السلطات المختصة باتخاذ القرار.
يستخلص من هذا الطرح ما للحكم الرشيد بمفهومه الشامل - المستند إلى درجة عالية من النزاهة والشفافية والمساءلة- من دور فعال في تحصين البلاد من المخاطر التي تهدد التنمية والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وحيث إن المملكة تدور في فلك الاقتصاد العالمي وتتأثر بتجارته الدولية وتسري عليها معاهداته بصفتها عضوا في منظماته الأممية، فلا يمكن تطوير اقتصادها المعرفي وتحقيق التنافسية الدولية من دون التكيف مع متطلبات استيعاب النمو المتسارع للحضارة ومن أهمها الاستمرار في تكوين وصيانة المجتمع المعرفي الفعال والمؤثر لممارسة دوره في النهوض بمؤسسات الدولة واقتصادها وتنمية المجالات التي لم تستطع الدولة سد فراغاتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي