مُعَلِّم في العناية المركزة
وزع ''المطوع'' نشاطات أيام الأسبوع على طلبته الذين كان يحتويهم المسجد المبني من الطين. كان يوم الخميس للنشاط الرياضي الذي يتركز على السباحة في بئر تسمى ''مياسة''. بقية أيام الأسبوع كانت موزعة على تعليم القراءة والقرآن والمساهمة في بذر الحقول وحماية المزروعات والحصاد.
يؤم المطوع أهل القرية في الصلاة وبعد أن يتأكد من عدد من حضروا صلاة الفجر، يستدعي آباء الطلبة المقصرين في القراءة، وينبه آباء من يلاحظ عليهم سلوكاً غير سوي. على أنه يحل هذه المشكلات باستمرار باستخدام ''الخيزران'' الذي يصنع من نبتة القصب المنتشرة على حواف الوديان. التعليم لم يكن مجانياً أبداً، ولكن الرسوم كانت تتنوع بين الحبوب والتمر والألبان والنقود لمن لديهم القدرة المالية. كان هذا خلال الفترة التي سبقت وصول مدارس ''وزارة المعارف'' إلى قرانا البسيطة والبعيدة عن مراكز النشاط التجاري والعمراني.
بقيت هيبة المعلم في مستواها حتى بعد أن شاركه إمام المسجد في السيطرة على تكوين فكر وسلوك مكونات المجتمع المختلفة - الذكورية على الأقل. تولى الإمام الجزئية المتصلة بالوعظ والإرشاد، واستمر احترام المعلم إماً بسبب الخوف من جبروته أو بسبب كياسته وسلوكه الذي يكاد أن يكون مثالياً. كان معلم زمان محور النشاط الاجتماعي والثقافي، كما شارك إمام المسجد في تنشيط العلاقات الاجتماعية وحل القضايا الأسرية.
مستوى التعليم في المجتمع ونوعية الأشخاص المتجهين لمجال التعليم أثَّرتا في حفظ المسافة الوهمية بين المعلم وبقية مكونات المجتمع الأقل تعليماً. أغلب الناس لم يكونوا يتجاوزون معرفة القراءة والكتابة لأسباب كثيرة من أهمها الاضطرار للبحث عن الرزق في سن مبكرة، ووجود بيئة تطالب الأبناء بتولي مهام أساسية في محيط الأسرة التي تعتبر منتجة وقادرة على تحقيق الحياة بمجهود ذاتي حسب موقعها من خريطة البلاد.
تقبلت الأسر دوماً أن يكون المعلم هو المسؤول الأول عن حفظ أبنائها من الانحراف، وحصولهم على العلم الذي يمكنهم من تحقيق ما لم يحققه أسلافهم. كانت ثقة الأسرة بالمعلم غير محدودة، ولهذا كنا نسمع عبارات مثل ''لكم اللحم ولنا العظم''. لم يكن هذا من قبيل كراهية الأبناء، وإنما لقناعة متأصلة أن المعلم لن يتصرف إلا بما هو في صالح الأبناء.
أعتقد أن أولى ظواهر الحرب على المعلمين بدأت عندما حجَّمت الوزارة دور المعلم والمدرسة في المجتمع. أصبحت التعاميم تنتشر بسبب ودون سبب تمنع هذا وتوقف ذاك وتقاضي الآخر. أنشأ هذا الوضع إسفيناً في العلاقة بين المعلم ومجتمعه. مُنِع المعلمون من استخدام العقاب الجسدي كوسيلة لمحاصرة السلوك غير السوي. هذا أمر مقبول وحضاري، لكن المعلم لم يكن لديه من القدرة التربوية والعلمية ما يعوض فقدان هذا العنصر العقابي.
استمر الضغط لتوظيف أعداد أكبر من المعلمين لمقابلة الزيادة المهولة في أعداد الطلبة. أثَّر هذا على المناهج التربوية وأسلوب القبول في التخصصات التربوية ومدد التطبيق التربوي الذي تتطلبه عملية التعليم الحديثة. ما أنتج معلمين أقل قدرة على التعامل مع نوعيات الطلبة الذين يواجهونهم في الفصل.
تزامن هذا الانخفاض في التأهيل مع انفلات تربوي على الصعد كافة. فقدت الأسرة دورها المهم في تكوين شخصية الأبناء، باهتمام الآباء والأمهات بأمور شكلية لا علاقة لها بتنشئة الجيل الذي يواجه التحديات ويعايش كماً كبيراً من الانفتاح والشهوات ويتابع من الأخبار والمعلومات ما يسبب تعميق ابتعاده عن جذوره الاجتماعية.
تهربت الأسرة من مسؤولياتها، ولكنها لم تمنح المدرسة الفرصة للقيام بدورها فأصبح الآباء يعترضون على كل أسلوب تنتهجه المدرسة في التربية، ويطالبون بالحظوة لأبنائهم سواء استحقوها أم لا. ويرفضون أي ملاحظات توجهها المدرسة لأبنائهم وإن كانت صحيحة، وهي ردة فعل طبيعية لمن يعتقدون أن النقد لسلوك الابن هو نقد لأسلوب التربية في الأسرة.
انتقلت العلاقة بين المدرسة والبيت من التعاون إلى الانفصال، وأصبح الطلبة أقل احتراماً لمعلميهم لعلمهم بهذه العلاقة السيئة وأمنهم من العقوبة الأسرية والمدرسية في آن. ظهرت الكثير من السلوكيات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، من السخرية بالمعلمين وإهانتهم والاعتداء على ممتلكاتهم.
لكن أن يصل الأمر إلى استخدام الأسلحة في تهديد المعلمين، وأن يعتدي مجموعة من الطلبة بالضرب على معلمهم كما حدث في ثانوية مكة في الدمام، ويصل إلى حد أن يدخل المعلم في غيبوبة كاملة بعد نزيف داخلي في المخ، مهما كان السبب. فهذا أمر ترفضه كل القيم والأخلاقيات والأديان، ولا بد أن تتعامل الوزارة معه بكل حزم، ولا بد أن تضع الوزارة استراتيجية واضحة تعيد من خلالها للمعلم قيمته سواء من ناحية الاختيار والتأهيل للوظائف التربوية وتطبيق أشد العقوبات على المعتدين على المعلم والتشهير بهم.