على العرب الاهتمام بدراسات الخطاب وتحليله
لقد هالني وضع المكتبة العربية من حيث افتقارها إلى ترجمات رصينة للفلسفة العصرية ولا سيما التي تعنى بشؤون اللغة وتأثير الخطاب في حياتنا.
آمل أن أكون مخطئا إلا أنه في غياب ترجمات لما أتت به قريحة فلاسفة كبار، قد لا نفلح في فهم وتفسير واقعنا الاجتماعي. هذا مؤشر سلبي كبير لما آل إليه الوضع في العالم العربي.
وقد لا أجافي الحقيقة إن قلت إن ما يترجم في السويد ذات التسعة ملايين نسمة من كتب في شتى مجالات الحياة وفي مقدمتها كتب المفكرين والفلاسفة إلى اللغة السويدية هو أضعاف مضاعفة لما يترجم إلى العربية التي هي اللغة الأم لنحو 400 مليون نسمة.
وحسب تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 فإن اليونان وحدها تترجم من الكتب إلى اليونانية خمسة أضعاف ما تترجمه الدول العربية الـ 22، حيث لم يتجاوز مجمل الكتب المترجمة إلى العربية 330 كتابا. ما يترجم للسويدية أكثر بكثير مما يترجم لليونانية.
في غياب تراجم للفلاسفة والمفكرين الذين يستند إليهم العلماء والأكاديميون في أبحاثهم ودراساتهم لتطوير الحياة الإنسانية وتنوير البشر والارتقاء بهم في سلم الحضارة الإنسانية، فإن جهودنا في التربية والتعليم لإعلاء شأن مجتمعاتنا وتثقيفها وتطويرها قد تذهب سدى.
ومن الفلاسفة من لهم باع طويل في الرقي والتمدن الذي وصلته المجتمعات الغربية يأتي يورجن هبرماس وهورخيمر "من مدرسة فرانكفورت للفلسفة النقدية" وفوكو وبيرنشتاين وهنا أرندت ودوي في المقدمة.
لا أظن أن هناك طالبا جامعيا ولا سيما في العلوم الاجتماعية ينهي دراسته الجامعية في أوروبا وشمال أمريكا ما لم يكن ملما بأفكار ومنطلقات ونظريات هؤلاء الفلاسفة.
وانتقلت حمى دراسة هؤلاء المفكرين إلى الدول التي في طريقها أن تقتحم معاقل الحضارة والتمدن والرقي الإنساني مثل الصين والهند وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وجنوب إفريقيا والبرازيل والأرجنتين. ومن المحزن ألا يكون بينها دولة عربية واحدة.
هؤلاء المفكرون يركزون كثيرا على خطابنا ومن خلاله يدخلون إلى أعماق المجتمعات الإنسانية ويكشفون ما هو المخفي منها وما هو الظاهر ولا سيما ما تحاول هذه المجتمعات إخفاءه عمدا عن نفسها وعن محيطها الاجتماعي.
ويؤكدون أنه دون تحليل معمق للخطاب للوصول إلى المعرفة التامة بما نحن عليه من سلب وإيجاب ومناقشته بشفافية وحرية دون خوف أو خشية من أي سلطة دينية أو سياسية أو مدنية ودون تحد للوضع الراهن الذي يعادي المتسلطون عليه والمستفيدون منه التغير صوب الأفضل، فإن المجتمعات البشرية تبقى تدور في مكانها وفي حلقتها المفرغة، أي تتقهقر وغيرها يزدهر.
وغالبا ما يأخذون الخطاب معيارا للرقي أو التخلف الإنساني حيث بنوا نظريات مختلفة تساعدنا على تحليله للولوج في المكامن البشرية وفك طلاسمها لا بل كشفها على علاتها لتنوير المجتمع وأفراده كي ينبذوا ما يعوق تطورهم ويتشبثوا بما يفيد رقيهم. وحسب نظرياتهم فإن واحدا من مؤشرات تخلف المجتمعات البشرية تفشي خطاب يمنح من خلاله البعض استنادا إلى مكانتهم الاجتماعية أو دينهم أو مذهبهم أو طائفتهم أو لونهم، مرتبة تميزهم عن غيرهم، أي أن ما يملكونه من ثقافة ومكانة أرقى إنسانيا واجتماعيا ودينيا ومذهبيا وسياسيا وغيره لما لدى غيرهم.
ويرون أن الخطوة الأولى في انتهاك الحقوق الإنسانية تبدأ باللغة والخطاب الذي بواسطته نقلل ونقوض أو نشوه الآخر من خلال ألفاظنا وخطابنا استعدادا لانتهاك حقوقه الإنسانية عمليا وبطرق شتى منها سلب حقه المشروع أن يكون مساويا لنا من ناحية القانون ومن ثم استخدام العنف لحرمانه من حقوقه الإنسانية الأخرى أو حتى الحياة ذاتها.
إن نظرنا إلى الاقتتال بين المجموعات العربية والإسلامية المختلفة في الشرق الأوسط مثلا وإن حللنا خطابها والخطاب الإعلامي من قنوات إعلامية مؤثرة جدا لرأينا أن بواكير العنف تبدأ باللفظة.