الاقتصاد .. أزمة قيم أم مناهج؟

التغيرات التي شهدها العالم بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية، شملت كل المفاهيم والمناهج، بما فيها المناهج الاقتصادية ومفاهيمها. وهذه الأخيرة باتت مثل الأيديولوجيات التي تناضل من أجل البقاء، ولا سيما أن أغلبيتها لم يعد مستمراً، و''أكلته'' الأحداث ومعها حقائقها. هل هناك يسار حقيقي الآن؟ هل هناك يمين واقعي الآن؟ وإذا كان هناك شكل من أشكال ما يسمّى ''الطريق الثالث''، هل نضجت هذه الطريق؟ أو هل اكتملت أدواتها، وتحدّدت مساراتها؟ وبعيداً عن المغالاة، العالم اليوم يتشكّل بسياسته واقتصاده وحتى بمعاييره الاجتماعية والأخلاقية. وفي مرحلة التشكيل، يكون كل شيء وارداً، وكل الأشياء قابلة للمراجعة. لكن أهم ما في عملية التشكيل أن شيئاً فيها ليس مقدّساً، والرمزية الجامدة المحنطة تنفع للعرض في المتاحف، بأقل عدد من الزوّار. هذا النوع من ''التحف''، لا يشهد عادة إقبالاً جماهيرياً.
المناهج الاقتصادية التقليدية المعروفة لم تكن متجدّدة. الذي يحدث على الساحة العالمية، أن مناهج جديدة تتشكل وفق ما هو متوافر وحقيقي، والأهم وفق القدرة على حل المشكلات. العالم يعيش الآن في حالة الحل لا الازدهار، واحتواء الأزمات لا الرفاهية، وتقليص الأذى لا الوفرة، على أمل أن يكون الناتج، مناهج عملية لا تشبه تلك التي قام عليها الاقتصاد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولا حتى المناهج التي سبقت كل الحروب. لقد مارس الجمهوريون الأمريكيون ''الذين يُفترض أنهم يمينيون'' الاشتراكية لحماية المؤسسات، ومارس الاشتراكيون ''الذين يُفترض أيضاً أنهم يساريون'' سياسة اقتصاد السوق. واليوم في بريطانيا حكومة مؤلفة من حزب ''يميني'' وآخر ''يساري''، وفي فرنسا، يحكم الاشتراكيون بمفاهيم غير اشتراكية لا تتوافق بما يكفي مع معايير الحزب الحاكم. وهناك أمثلة كثيرة في هذا المجال في أوروبا والعالم.
لا يمكن تناول مسألة المناهج الاقتصادية والقيم، إلا انطلاقاً من استحقاقات الأزمة الاقتصادية العالمية. ومن أهم ''فوائد'' الأزمة أنها كشفت منذ اليوم الأول لانفجارها، أن الاقتصاد كان فاقداً بصورة مرعبة للقيم، بما فيها الأخلاقية. كان اقتصاد الحيتان، التي تُغرِق ولا تَغرَق. كان اقتصاداً يسأل أصحابه عن كيفية قتل الضحية، لا عن سبب قتلها. مُورس هذا الاقتصاد من قِبل جهات ومجموعات كانت تتعاطى مع الأخلاقيين على أساس أنهم حالمون، وفي أحيان كثيرة تعاطت معهم كأعداء يشكلون خطراً على المدى البعيد. الذي حدث، أن الحيتان غرقت، لكن مع الأسف لم تكن وحدها، أخذت معها الغارقين أنفسهم، لتغوص بهم مرتين لا مرة واحدة. لقد قُتلت الضحية أحياناً مرات عدة. والسبب الرئيس كان القيم الغائبة، والأخلاق المُبعَدة، فضلاً عن الاستخفاف المَرَضي بمحكمة التاريخ وأحكامها العادلة.
لا أحد يمكنه ادعاء اتباع منهج محدد في الاقتصاد. اقتصاد السوق لم يعد كذلك، والاقتصاد المنغلق انتهى إلى غير رجعة، واقتصادات ''الكاوبوي'' أضحت بلا قطاع طرق يوفرون لها الحماية. وكلما استند التشكيل الراهن للاقتصاد العالمي إلى القيم المختلفة، حصّن نفسه من انهيار آخر جديد. في الاقتصاد تكون الانهيارات عادة جزءاً منه، والاقتصاد الجيد هو ذاك الذي يحوّل الانهيارات من سرطان حتمي خبيث، إلى سرطان حتمي حميد. لا يوجد منهج تقليدي يوفر هذه الحصانة على الإطلاق. وعلى هذا الأساس، لا مفر من قيم جديدة، تأخذ في الحسبان المصالح العامة للاقتصاد العالمي، وتفرض على الاقتصادات المحركة حدوداً لا تتجاوزها، من أجلها ومن أجل العالم أجمع. دون أن ننسى، أن العملية ليست سهلة، خصوصاً في ظل الأمراض المزمنة التي تركها الاقتصاديون الذين وجدوا على مدى عقود في القيم والأخلاق معطلات تفرغوا لــ ''تعطيلها''، لكنهم حتى في هذه المهمة لم ينجحوا إلى الأبد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي