قيادة المرأة .. حرية اختيار
الجدل والردود على المقال السابق، الذي آمن أن العفة في تمكين المرأة المسلمة من خصوصيتها وعدم فرض رجل يُستجلب من أقاصي الأرض ليكون في خلوة بغيضة معها، هي مكرهة عليها، وهي ملزمة بدفع تكاليفها وضرائبها كافة. وهذا ما جعل المقال السابق يطالب بالعدل والإنصاف، لأن المرأة في الحالين مسلوبة الاختيار وفي الحالين مطلوب منها أن تقبل مكرهة وأن تدفع مكرهة.
ما يثيره هذا المقال هو الإجابة عن كثير مما أثير عن المقال السابق في نقطتين:
أولا: التدخين وقيادة المرأة..
إن وجود فتوى تحريم قيادة المرأة للسيارة من بعض العلماء، لا يعني بحال من الأحوال منعها، ولا فرض هذا المنع من الحاكم، وذلك لوجوه كثيرة أهمها أن هذه الفتوى معارضة بإجماع علماء الإسلام المعاصرين بالجواز والإباحة وإن منهم علماء كبارا من السعودية. وفتوى الآحاد ملزمة بحدود من يتبعها فقط، وإن قاعدة ''اختلاف أمتي رحمة'' فسره العلماء في تقابل الرأي في الفقه، وتعدد صور الجواز والمنع فيه. والوجه الثاني: أن جملة سلع وبضائع كثيرة صدرت فيها فتاوى تحريم اتصفت بالإجماع من فقهاء المملكة مثل ''التدخين'' وهو ضرر صرف، ولا وجه من الخير فيه، ولا منفعة ترجى منه على الفرد وعلى المجتمع. ورغم الفتوى المغلظة بالتحريم، إلا أنه مباح في استعماله وبيعه وتجارته، بل وفي الدعاية إليه وتسويقه، لمن لا يعتقد بهذا التحريم. وكان موقف الحاكم منه: '' مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ''، '' إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ'' ولا إلزام بالمنع عنه، ولا تشجيع عليه في الوقت ذاته.
وكذلك شراب ماء الشعير البيرة وبيع شرائط الأغاني، والأفلام والمعاملات البنكية، وغيرها الكثير ولم تُمنع، ففي كل مورد اختلف الرأي فيه لا يجوز منعه، بل ولا يجوز النهي عنه أيضا. لعدم التضييق على الناس، ولكيلا تنشأ للمنع مفاسد أكبر منه.
وتلك موارد لا يرجى من بعضها خير، وهي قريبة المنال لمن رغب في استعمالها، فلماذا يستدل بفتوى فردية، لفرضها على أمة من المسلمين في منع القيادة للمرأة! مع الضرر البين على طائفة عريضة منهن بسبب هذا المنع، وظهر بسببه فساد عظيم، وفرض الفقر والعوز على عدد غير قليل منهن، وتعرضهن للتحرش، والخطف، والغواية من قبل سائقي سيارات الأجرة، ما يجعل القيادة للسيارة عفة، وعدم منعها عدل وقيام بين الناس بالقسط.
ثانيا: إن قيادة المرأة ولاية خاصة
من غريب صور الفهم عند البعض، أن يطالب بالمنع من الحاكم بذريعة درء المفاسد وجلب المصالح، وهذا كلام يستغرب صدوره من عالم، وذلك لأن الخلاف في أصل المفسدة لا في ثبوتها ففي الوقت الذي يرى هو المفسدة في القيادة يرى آخرون أن المفسدة الحق في منعها منها. وفرض رجل أجنبي عليها في رواحها وغدوها ليلا ونهارا. وطول السواد وقرب الوساد من الوساد.
ثم إن الولاية الخاصة مقدمة على الولاية العامة في الفقه، وعند جمهور العلماء، ولا أحد يقول بخلاف ذلك، فلا يجوز لغير الزوج الطلاق، ولا يجوز لغير الولي إذن النكاح ولو كان قاضيا أو حاكما في كل أوجه الولاية الخاصة. فكما أنك لا يجوز لك أن تفرض بالقوة منع ابني من التدخين -مع ثبوت حرمته- وينتهي دورك بالدعوة إلى الصلاح بالحكمة والموعظة الحسنة. كذلك لا يجوز فرض منع القيادة على ابنتي حين أقرر أنا بولايتي عليها الرضا والإذن لها. حتى على فرض وجود ضرر محتمل.
وحين يقرر صاحب الولاية الخاصة -الأب،الزوج- السماح لمن هم تحت ولايته بقيادة السيارة لا يملك أحد الحق في منعه طالما أنه حلال لا ضرر منه ولا يملك أحد الحق أن يفرض هذا المنع عليه وغاية تكليف الفقيه والوظيفة منه أن يبين الحكم الشرعي بحسب اجتهاده هو المستنبط من الكتاب والسنة بحسب أصول الاستنباط الصحيحة.
كما أن بعض القرارات التي تصدر من مسؤولين ليست ملزمة، ولا واجبة، وذلك لأن ولاية الوزير، والمسؤول في المملكة مقيدة بصلاحيات محددة نص عليها النظام. وجعل التشريع فيما له مساس بحياة الناس، مشروط بموافقتين الأولى مجلس الوزراء في قبوله، والثانية المقام السامي باعتماده وفرض العمل به.
وحين يذكر خادم الحرمين الشريفين أننا كدولة لم نشرع منع المرأة من القيادة، ويثني على هذا ولي العهد حينها الأمير سلطان -رحمه الله- في أكثر من مرة في محافل دولية. لا يجوز بعد ذلك أن نقدم بيانا صادرا من وزارة على قول الملك ورئيس مجلس الوزراء.
والظريف رفع طلب لولي الأمر لفرض المنع لهذه الضرورة الملحة على الناس. وهذا مخالف للشرع والعقل والعدل. فمن شاء أن يأذن إلى أهله فعل، ومن لم يشأ لن يكون في الأمر إلزام.. ولا قهر.. فكيف تجوز المطالبة برفع ولاية الناس على أنفسهم! وهو بهذا يدعي تمثيل الإسلام وفقه المسلمين. وما هي إلا استبداد بغيض يقوم على سلب حرية الاختيار من المجتمع، وسلب ولاية الناس على أنفسهم بما لا يجيزه عدل ولا شريعة من دين الله.
في عشر سنوات فقط نكون قد صدرنا من ثروتنا الوطنية 350 مليارا للخارج فاتورة قرار المنع هذا، وسيتم رفعه في وقت ما. والسؤال الأهم متى وبعد أن نكون قد خسرنا كما من المليارات؟ بما لا يمكن استرجاعها ولا ردها.