ما هي «مشكلتنا» بالتحديد؟
حينما تحمل بين يديك خريطة حديثة وتفصيلية لمدينة الرياض، توفّر لك سهولة الانتقال والوصول إلى أيّ موقع تريده في هذه المدينة مترامية الأطراف، هل تتوقّع أنّها ستحقق لك الغاية ذاتها إنْ حملتها معك في مدينة جدة على سبيل المثال؟ ستتفق معي أن الإجابة ''لا''، والإجابة ستكون ''لا'' أيضاً لأي مدينةٍ أخرى سواءً كانت داخل البلاد أو خارجها!
والحال نفسه سينطبق على خريطة قديمة لمدينة الرياض رُسمتْ قبل 30 عاماً أو أكثر، فلا يمكن لها أيضاً أن توصلك إلى المواقع الجديدة ''وما أكثرها'' في هذه المدينة، فلا بد لك من خريطة يتطابق ما هو مرسومٌ فيها مع ما هو موجود على أرض الواقع، وإلا فإن النتيجة هي الضياع وعدم وصولك إلى هدفك المنشود! هذا مثالٌ صغير جداً مقارنة بما سآتي بذكره بعد قليل.
انظر إلى الرؤية الاستراتيجية والسياسات والبرامج الإنمائية المختصة بأي اقتصادٍ حول العالم على أنّها ''خريطة'' الطريق، وأنّ تكلفة الضياع والهدر والخسارة في حالة استنساخك لرؤى وسياسات وبرامج اقتصاداتٍ ومجتمعاتٍ أخرى، ستكون فادحةً ومدمرةً جداً، ولا يمكن مقارنتها بأي حالٍ من الأحوال بضياعك في مدينةٍ تحمل بين يديك خارطة مدينة أخرى!
تلك باختصارٍ شديد قارئي الكريم مشكلة التنمية والإنماء والبناء التي تعانيها أغلب بلدان العالم النامي، ومن ضمنها بلادنا العزيزة، في استنساخ أو تطبيق ما تنتجه اقتصادات ومجتمعات في الأغلب تكون متقدمّة، ومن ثم العمل على تطبيقها دون الأخذ في عين الاعتبار تلك الاختلافات الكبيرة جداً على أرض الواقع. ولا تقف المشكلة عند هذا الحد فقط، بل تمتد حتى إلى إغفالها التحولات والتغييرات التي طرأتْ عبر عقود الزمن على المجتمع والاقتصاد محل العملية التنموية، وهنا يصبح الخطأ مضاعفاً، وأكبر كلفةً وخسارة!
الحل نظرياً؛ أن تتوقف عن استخدام ''الخريطة'' المستنسخة والقديمة للاستراتيجية والسياسات التي بين يديك، وأن تبدأ من جديدٍ في رسم ''خريطة'' أخرى حديثة تتطابق مع واقعك بكل تفاصيله، بإيجابياته وسلبياته على حدٍّ سواء، وتبدأ فور انتهائك منها بالعمل في الالتزام بها، والسير وفق تفاصيلها، تعالج الخلل بيد، وباليد الأخرى تُقيم وتبني. ثم تعود مرةً أخرى لرسم ''خريطة'' أخرى بعد عدة سنواتٍ لا تزيد عن خمس سنوات، تلتقط من خلالها الصورة الجديدة لما أصبحت عليه، وتكمل ذات الجهد عملاً والتزاما بالخريطة الجديدة، وهكذا يكون ديدن حياة الباحثين عن النمو والبناء والنهضة.
إنّه حلٌ سهل جداً على المستوى النظري، لكنّه عكس ذلك تماماً على أرْض الواقع، بل إنّه مكلّفٌ جداً، ومرهق إلى حدود تفوق الوصف! الأمر الجيّد فيه بغض النظر عن تلك التكاليف والجهود المضنية التي سيتحمّلها منفّذ تلك الرؤية أعلاه؛ أنّ تكاليف وجهود رسم تلك الرؤية الاستراتيجية والسياسات والالتزام بها، مهما بلغتْ تلك التكاليف والجهود؛ ستكون ''أقل وأدنى'' بكثير من تكاليف وجهود مواجهة ''نتائج وآثار'' استنساخ رؤى وسياسات لا تمت بأي صلةٍ إلى واقعنا، وحقيقة سماتنا.
إنّي لأرجو أنْ يساهم تخيّل ما كتب أعلاه في تفسير أكبر قدرٍ ممكن من صورة التحديات والمشكلات التنموية التي نواجهها اليوم، وأنْ نبدأ التفكير الجاد بعدئذ في السعي المتكامل بين مختلف أجهزتنا الحكومية ومنشآت القطاع الخاص ومؤسساتنا المدنية، نحو رسْم رؤيةٍ استراتيجية وسياساتٍ وبرامج إنمائية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار حقيقة الأرض التي نقف عليها؛ بكل ما تحمله تضاريسها من وفوراتٍ وإمكاناتٍ وفرصٍ وتحدياتٍ وأزماتٍ، وأنْ تقوم آليات العمل لأجل تحقيق هذا الهدف الحضاري العظيم قائماً على المشاركة لا المنافسة، وعلى الكفاءة لا الثقة، وعلى الاستحقاق على أساس الإنتاجية لا الهبة.
يمكنُ القول حول أغلب ما نواجهه من مشكلات وتحديات وأزمات، إنّ أغلبها إنْ لم يكن كلها دون استثناء، ناتجٌ عن ''استنساخ'' و''قدم'' تلك السياسات والبرامج التنموية، وإنّ البدء في معالجة تلك الأسباب غير المقبولة، وغير الحقيقية لعدم علاقتها بحقيقة السمات الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بنا، أؤكد أنّه الخطوة الأولى على طريق الإصلاح وإعادة البناء والتطوير، والارتقاء في سلّم النهضة المستهدفة من قبل كل إنسانٍ ينتمي إلى هذه البلاد العزيزة.
ترتقي الأهمية القصوى لرسم تلك الرؤية الإنمائية الشاملة وتبدأ من أروقة المجلس الاقتصادي الأعلى، التي نطمح إلى أن تكون ''خريطة الطريق'' واضحة المعالم للتقدّم نحو مستقبلنا بصورةٍ ناجحة وآمنة، وأن يُفرض تطبيقها بقوة القانون على كل طرفٍ معني بها، سواءً كانت أجهزة حكومية، أو كيانات القطاع الخاص، أو حتى أفرادا.
الأمور والتحديات الجسيمة الراهنة، والمخاطر القائمة بيننا ومن حولنا وفي القادم من الأيام، تقتضي -على أقصى درجاته- استنهاضاً للهمم، وشعوراً وطنياً مخلصاً يجب أن يتحوّل إلى فعلٍ حقيقي على الأرض! وأن ندرك تمام الإدراك أن أيّ تهاونٍ أو تأخّرٍ أو تعطيلٍ من شأنه أن يفاقم من تلك التحديات والمخاطر على حدٍّ سواء!
القضية واضحةٌ جداً كشمسنا الظاهرة! أهدافٌ وطموحات مشروعة لوطن ومجتمع، مصيرهما الآمن مرهونٌ بما سيتحقق من تلك الأهداف المشتركة، وتعطيل أيّ منها مجاملةً لهذا، أو هرباً من غضب هذا، يعني بكل وضوح تام أننا ''نضحّي'' بمصلحة الوطن الكاملة لقاء مصلحة فردٍ أو شريحة ضيقة من المستفيدين من تشوهات الواقع الراهن.