كيف انتصرت اللغة على الاقتصاد والسياسة؟
نحن - المعنيين بعلم الخطاب - قلما يكترث لنا الناس. البعض يتصور أننا ثرثارون ونقول ما لا نفعله ونعظ عكس ما يتطلبه العلم وما تحتاج إليه الممارسة في الواقع الاجتماعي.
مضى على استتباب علم الخطاب كممارسة أكاديمية منهجية، ولا سيما الفرع النقدي منه، أكثر من ثلاثة عقود. وفي هذه الفترة القصيرة شهد من الانتشار في الأروقة الأكاديمية ما لم يشهده أي فرع آخر من العلوم الاجتماعية.
واليوم أخذت تنهل من ينابيعه فروع خارج نطاق العلوم الاجتماعية. في جامعتنا مثلا بدأنا بإعداد مناهج خاصة عن أهمية علم الخطاب وتحليله للفروع العلمية منها الطب والهندسة.
لن أغوص في ماهية هذا العلم للحياة العصرية وتطبيقاته، ولكنني أقول إننا اليوم في زمن طغيان اللغة والخطاب على كل زاوية من زوايا حياتنا. إن فشلنا في تحليل خطابنا بطريقة علمية منهجية ذات أبعاد تطبيقية معناه ما زلنا نجهل من نحن ولا علم لنا عن دورنا في المجتمع الذي ننتمي إليه والمجتمع الإنساني الأوسع برمته.
وإن فشلنا في تحليل خطاب المختلف عنا دينا وطائفة ولغة ومذهبا وفي غيره، معناه أننا ما زلنا في الظلام عن كل ما يتعلق به وعلاقته مع نفسه ومجتمعه وارتباطه بنا سلبا أو إيجابا.
ويذهب بعض علماء الخطاب بعيدا ــــ وأنا واحد منهم ــــ إلى القول إنه من الصعوبة بمكان فهم أي ظاهرة بشرية مهما كانت طبيعتها دون تحليل معمق للخطاب واللغة التي بواسطتها نتعرف إليها وتعرّف نفسها لنا.
وقد درس زملاء لنا ظواهر اجتماعية واقتصادية وإعلامية وعسكرية وسياسية ودينية وغيرها، محللين خطابها، مفسرين لنا ما خفي منها، وملقين الأضواء على الأركان المظلمة فيها، ومستنتجين دروسا بليغة لمساعدتنا في التغلب على سلبياتها.
وفي عطلة الأسبوع الفائت أمضيت يومين منقطعا عن العالم مع مجموعة من علماء الخطاب الأوروبيين، وجمهور متنور، وإعلاميين، منهم من أتى لتغطية الحدث ومنهم من حضر مستمعا، في مؤتمر دولي قمت بتنظيمه وإعداده. الهدف الرئيس منه كان الربط بين علم الخطاب والممارسة ــــ أي أن يكون لتحليل الخطاب الذي نجريه منفعة مباشرة للمجتمع.
وكلنا ــــ علماء وأكاديميين وغيرهم ــــ نخشى المنافسة. شخصيا أخشى العلماء الشباب الذين يمضون أوقاتا طويلة وهم يدرسون ظاهرة محددة. هؤلاء وفي وقت قصير يفندون ما أتينا به وأمضينا عمرنا نبحث فيه من خلال دراسات رصينة تأخذ العلم إلى مجالات وآفاق جديدة لم نكن نحلم بها.
وهذا ما حدث في هذا المؤتمر. باحثة في ريعان الشباب في نظرها أمثل النموذج لما ينبغي أن يكون عليه الأستاذ والأكاديمي صاحب منهج وطريقة وصاحب مجلة علمية أكاديمية وعدة كتب، وإذا بها تجعلني أشعر أنني قد أحتاج إلى عمر آخر كي ألحق بها.
قدمت بحثا حللت فيه الخطاب الذي كان يستخدمه الأغنياء والنخبة وأصحاب الشأن في مدينة روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية في القرون الأولى للميلاد لوصف وتصنيف وتمثيل الأدنى مرتبة منهم ''أي الفقراء ومن لا شأن لهم بالسلطة''، وقارنته بالخطاب الذي تستخدمه النخبة السياسية والإعلامية وغيرها في لندن عاصمة المملكة المتحدة ''بريطانيا'' لوصف وتمثيل وتصنيف المهاجرين والفقراء والمعدمين.
الاستنتاج الذي أسندته الباحثة الشابة إلى مجموعة معطيات وبيانات لا تقبل الدحض، أظهر أننا كبشر لم نتطور كثيرا في طريقة استغلال الخطاب، حيث ما زالت النخبة في القرن الحادي والعشرين تتلاعب وتجتزئ وتنتف النصوص واللغة والتعابير وتصنفها وتبوبها لخدمة مصالحها وإظهارها لنفسها أنها على حق تستحق ما لها من امتيازات، والأضعف منها على باطل ولا يستحق النتف التي يحصل عليها.
وأظهرت أن النخبة الإعلامية والسياسية والاقتصادية تستغل الخطاب لتصغير وتهميش الطبقات الأدنى، لا سيما اللاجئين والفقراء والمهاجرين والأجانب والمختلفين عنها دينا ولونا ومكانة اجتماعية، ولكن إن كان هؤلاء أصحاب غنى فاحش مثل عشرات الآلاف من الروس والصينيين وأقوام أخرى من جنوب شرق آسيا الذين تقريبا احتلوا لندن اليوم، فإنهم من حيث الخطاب والتوصيفات اللغوية يقعون في خانة النخبة الإنجليزية.
وأقرأ اليوم أن الدراسات التي أجرتها هذه الباحثة الشابة بدأت تفتح عيون الكثيرين على ظاهرة من الأهمية بمكان، حيث صار إبرازها مسألة أخلاقية بالنسبة للصحافة والإعلام.