الجدة نورة.. صانعة «الكليجا»

تجربة إنسانية رائعة لامرأة فريدة لم تسمح لظروف الحياة أن تكسر عزيمتها وتقتل إرادتها، توكلت على ربها وبدأت بتحقيق حلم حياتها دون أن تنصت للسلبيين أو تلقي لهم بالا. الجدة المكافحة ''نورة الثنيان'' تحكي قصتها فتأملوا حروفها جيدا فأنا واثقة أن الإلهام يرقد بين طياتها!
من عادات بعض العائلات في منطقة القصيم إهداء العروسين وبعض أقاربهم شيئا من الأكلات الشعبية التي تبقى لأيام دون أن تفسد مثل ''الكليجا''، ''المعمول''، وكان هناك نساء معروفات ببيعها. وسأخبركم بما حدث لي عند زواج ابنتي، حيث لم أتمكن من طلب ''الكليجا'' قبل الزواج بوقت كافٍ، وكنت كلما ذهبت لواحدة من هؤلاء النسوة اللاتي كن يصنعنها، كنت ألقى منها توبيخا وكلاما سيئا، لأني تأخرت كثيرا في طلبها والوقت لا يسمح لها بأن تنجز ما طلبته منها.
كنت في كل مرة أعود لمنزلي مكسورة الخاطر وحزينة لأن الأيام تركض سراعاً وزواج ابنتي يقترب ولا أجد واحدة من صانعات الكليجا تقبل أن تتفهم ظروفي وتلبي احتياجي وتنقذني من الورطة التي وجدت نفسي فيها رغما عني.
ولا أخفيكم أن فكرة مشروع خاص بي كانت تراودني منذ كنت طفلة صغيرة حيث عشت يتيمة وكثيراً ما كنت أحتاج إلى مال ولا أجده.. وربما كانت المواقف المؤلمة والكلمات السيئة التي سمعتها من كل واحدة رفضت مساعدتي في صنع ''الكليجا'' جعلتني أظن أن الوقت قد حان لتحقيق حلمي.. كانت هذه المواقف فاتحة خير، حيث قررت بعدها أن أعمل ''كليجا'' بنفسي، اشتريت ما يلزم من أغراض صنع ''الكليجا'' من طحين بر وعسل وليمون وغيرها، لكن المشكلة التي واجهتني أني لا أعرف كيف أصنعها!
ووجدتني رغماً عني مضطرة أن أتواصل مع أكثر من امرأة لأسألها عن كيفية صنع ''الكليجا''.. ومن المضحك المبكي أن واحدة تزيد وأخرى تنقص في المقادير، فقد كن يخشين أن أجيد صنعها فأتفوق عليهن وأكون أكثر منهن مهارة وجودة فيتسبب ذلك في خسارتهن زبائنهن!
في كل مرة كنت أصنعها حسب وصفاتهن المغلوطة التي كن يتعمدن فيها إفساد صناعتي، كنت أخرج بنتيجة أسوأ من التي قبلها، فقررت أن أتوكل على الله وحده ثم على خبرتي المتواضعة وإمكاناتي واجتهادي البسيط والأهم ثقتي الكبيرة بنفسي وقدرتي على النجاح مهما تكررت محاولاتي.. لذلك صرت أضع المقادير من عندي وبمساعدة بناتي إلى أن بدأت تتحسن وصفاتي وقبل زواج ابنتي كنت قد أجدت صنع ''الكليجا'' بمهارة كبيرة وربما تفوقت على صانعات الكليجا أنفسهن اللاتي كن ينتقدنني بقسوة. حازت ''الكليجا'' التي صنعتها والمعمول إعجاب كل من تذوقهما واندهشوا من مهارتي العريقة والطعم اللذيذ والحرفية العالية، وقد كنت حريصة على الاستفادة من أي ملاحظة، وبعد انتهاء زواج ابنتي بدأت في وضع الأساس الأول لمشروعي الذي كان حُلماً تم تأجيله مرات عديدة، وبدأ المشروع يكبر شيئا فشيئاً وأصبح لي زبائني الذين لا يشترون إلا مني لثقتهم بجودة ''الكليجا'' و''المعمول'' اللذين أصنعهما، وأصبح لي صيت وشهرة، وبدأ الناس يعرفوني وانهالت عليَّ الطلبات من القصيم ومن خارجها، ونظرا لكثرة الطلبات اضطررت أن أجهز مكانا أكبر من مطبخي الخاص.
فاشتريت أفرانا خاصة وجهزت معملاً متكاملاً عبارة عن غرفتين ملحقتين بالمنزل، وفي نهاية كل يوم كدح وكفاح كنت أخرج من الغرفتين بمبلغ رائع لم أحلم به يوما ما، وظللت أعمل في هذا المشروع قرابة 20 عاما أو تزيد قليلاً، حققت من خلاله اكتفاءً مادياً وسمعة طيبة في مجال صنع ''الكليجا'' وتقديراً ذاتياً رائعاً لنفسي.. وبعدها توقفت لكبر سني وعجزي.. والآن تكفيني همسات أحفادي الصغار لتعيد لي شيئا من تلك الأيام ''ماما نورة اشتقنا للكليجا من يدينك''.
ذاك جزء من حياتي ربع قرن تذوقت فيه طعم الكفاح والنجاح، أيام قاسية لكنها جيدة المذاق بنجاحنا.. تذوقوها فحياتنا تستحق.. وحين تسمعون الكلمات السيئة من الآخرين فلا تحزنوا بل اجعلوها مثل الوقود الذي يلهب حماسكم لتنطلقوا بقوة نحو العمل والإنتاجية والنجاح. واعلموا أن أيام الكفاح ستصبح ذكريات جميلة.. تماماً كما أعيشها أنا الآن!
قصة واقعية ملهمة حقا، أرجو أن تشحذ همم بعض الفتيات والشباب الذين مضى عليهم وقت طويل وهم يحلمون دون أن يبدأوا بالخطوة الأولى، وأهمس لكم من أعماق قلبي.. توكلوا على الله تعالى وآمنوا بما تملكونه من قدرات وعزيمة وابدأوا الآن فالحياة لا تنتظر أحدا!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي