يا نزاهة

كلما مررت بمشروع أو شركة أو جامع أنشأه أحد موظفي الدولة أتساءل من أين له هذا؟ كان المخالفون في زمن مضى يختفون خلف أسماء زوجاتهم أو أبنائهم عندما يريدون أن يمارسوا مخالفة كتملك الأعمال للعاملين في الدولة. بل إن الكثيرين كانوا يتهربون من ذكر أسمائهم حتى بعد التقاعد على اللوحات أو في التراخيص. لكن يبدو أنه ''باح الحياء'' وأصبح كل يفاخر بما حققه من مكاسب مالية سواء كانت بطريق الحق أو الباطل.
يفسر علماء النفس هذه الحالة من خلال هرم الدكتور ماسلو للاحتياجات البشرية وهو واحد من أهم الاكتشافات في علم النفس. يقع في قمة الهرم تقدير الذات أي الإحساس بالأهمية. تتكون هذه الحاجة لدى من حققوا كل احتياجاتهم البدنية والنفسية والاجتماعية ووصلوا إلى مرحلة من الاكتفاء، لتصبح أهم احتياجاتهم هي أن يقول الناس هذا فلان، وأن يُدعوا على موائد الرؤساء، وأن ينالوا التقدير والاحترام حيثما حلوا.
هذه المشكلة يواجهها موظفو العلاقات العامة الذين لا يكونون قاعدة معلومات كبيرة عن وجهاء المجتمع ورجال الأعمال ومسؤولي الدولة. لأن مجرد سؤال أي واحد من هؤلاء عن هويته أو وضعه في مكان لا يتلاءم مع مركزه ورغباته، قد يكون بداية النهاية لعمل الموظف في مجال العلاقات العامة أو المراسم.
يحتاج من لديهم كل شيء إلى أن يحصلوا على الشعور بأن لهم أثرا وقيمة مجتمعية، ولذلك ترى الكثير منهم يساهمون في أعمال خيرية أو يقدمون التبرعات لأنشطة قد لا يقتنعون بها، وذلك لمجرد الظهور في الإعلام وتكوين رؤية إيجابية لأشخاصهم. قد يرى الفقراء -من أمثالي- هذا أمر غريب، لكنهم لن يفعلوا لو كانوا مكان أولئك.
كان الناس في السابق يخشون أن يفتضح أمرهم أو تصيبهم عين حسود. لكن الموظف العام الفاسد كان يعتبر في تلك الأيام منبوذاً في المجتمع، بل وكانت تصدر بحق الكثيرين منهم عقوبات رادعة من قبل الجهات الرقابية التي كانت ''مصحصحة''. أغلب المسؤولين الذين كانوا أصحاب قدر وقيمة، ولهم من القرارات ما هو مشهور حتى اليوم. أحيلوا للتقاعد وماتوا فقراء، والكل يعرف أشخاصا من هذا النوع. لكن الفساد موجود في كل زمان ومكان.
الفاسدون في تلك الأيام كان عددهم محدودا، وكانوا لا يجاهرون بثرواتهم، بل ولا يتجرأون على الإفصاح عن أعمالهم. بعضهم اكْتُشِفَ فساده بعد وفاته عندما جاء الورثة ليبحثوا عن ''تقدير الذات''. آخرون لم يعرفهم أحد وحسابهم على الله. هذا حال مقبولة، لأنها منتشرة في كل مكان حتى في أعتى الأنظمة الشفافة، فقبل أيام قرأت عن مسؤول حكومي فرنسي قُبِض عليه وهو يحاول أن يهرب 400 ألف يورو نقداً إلى بلجيكا، لأنه لم يستطع أن يودع المبلغ في حساب بنكي لصرامة الرقابة على تداول الأموال.
ما يثير الحفيظة هو الحال الذي وصلنا فيه إلى أن نرى موظفاً أو موظفا سابق في الدولة سواء كان مدنياً أو عسكرياً يستدعي عمله أن يتواجد في مكتبه لساعات طويلة، بل ولا يستطيع أن يمارس أي نشاط آخر، يرأس مجالس الشركات، وتدرج أسهم شركاته في السوق، أو يمتلك مواقع وأراضي كانت للدولة تقدر أقيامها بعشرات الملايين، أو يسير الأساطيل الجوية والبرية والبحرية على الرغم من أنه دخل الوظيفة وهو ''على باب الله''.
ما يؤلم أكثر أن نرى الكثيرين منهم ينشئون جوامع تكلف عشرات الملايين، ويسيِّرون حملات حج لأعداد كبيرة من المحتاجين، وينشئون جمعيات خيرية تنفق الملايين. ليس هذا اعتراضاً على العمل الخيري، وإنما احتراماً لها من مال ''الحرامي''.
كلنا يعلم أنه تتاح للموظف -بحكم منصبه- فرص للتربح من الوظيفة العامة، ولكن هذا لا يعطي أي موظف عام الحق في استغلال تلك الفرص. لعل أهم دليل يمكن أن يُعتمد عليه هو قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شأن من يأخذ شيئاً من المال العام ''مَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا، فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ، بِيَدِهِ لَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ، فَقَدْ بَلَّغْتُ'' رواه البخاري.
من هنا جاءت المطالبة العالمية بإدراج بنود إبراء الذمة المالية كواحدة من متطلبات التعيين في الوظائف الحكومية. أستغرب كيف يمكن أن نحقق الشفافية والنزاهة من خلال إجراء إداري بسيط يمكن تطبيقه بسهولة، خاصة على الوظائف العليا، ومع ذلك لا تطالب الهيئة العامة لمكافحة الفساد بتطبيقه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي