مدارس الأطفال الليلية
سمعت عن تقسيم الدراسة في المدارس إلى فترتين لأول مرة أثناء زيارة لمحافظة جدة قبل أكثر من 30 عاماً. كان الناس يبحثون عن الأعذار لإدارة التعليم بسبب الاكتظاظ. كانت العلاقة في تلك الأيام مع الوزارة في أحسن صورها. أظن أن الثقة فُقِدت بعد ظهور المزيد من المدارس التي تدفع بالأسر للتعامل مع يوم دراسي يبدأ بعد العصر وبعد عقود من وعود بحل المشكلة.
قضية التعليم المسائي لم تدرس بطريقة علمية، ولم أجد إحصائيات عن مستوى التحصيل العلمي، واختلافه بين الطلبة الذين يدرسون في الصباح والذين يدرسون في المساء. أتصور أن الوزارة لم تُعر القضية الاهتمام الكافي، واعتبرت الموضوع ''حلا مؤقتا'' مثله مثل الكثير من الحلول المؤقتة التي أثبت الزمن أنها أصبحت دائمة.
وقع محدثكم ضحية إحصائية الوزارة التي أكدت الاستغناء عن مبانٍ مدرسية مستأجرة، وذكرت ذلك في مقالي عن التعليم قبل عدة أيام. ذكَّرني مدير إحدى المدارس أن الإحصائية ''ملغمة''، فالمدارس تم الاستغناء عنها، ولكن الطلبة حولوا للدراسة في المساء في مدارس أخرى، وهذا أمر مؤسف. يجب أن نكون واقعيين مع أنفسنا ومع المواطنين الذين يفترض أن يستفيدوا من خدمات التعليم في البلد، لتقل الوزارة إنه تم الاستغناء عن - كذا - مدرسة من خلال تحويل الطلبة للدراسة المسائية. الشفافية والمصداقية هما ما نحتاجه من كل مسؤول، لأن إخفاء معلومة بسيطة، يتحول مع الوقت إلى إخفاء لحقائق أكبر وأخطر. بل إن العاملين قد يجعلون من هذه السياسة وسيلة للتعامل مع رؤسائهم. فيصبح الكذب والخداع أسلوب عمل، وليس أمراً مرفوضاً. ثم ليحاول من يستطيع أن يصلح الوضع أن يفعل.
تحويل المدارس إلى العمل على فترتين يؤدي إلى الكثير من المخالفات التربوية. أهمها وأكثرها انتشاراً اليوم هو تقليص ساعات الدوام المدرسي. يقول لي أحد الزملاء: إن ابنته التي تدرس في المرحلة المتوسطة تخرج من المدرسة الساعة 11:30 صباحاً، أي أنها تقضي أقل من خمس ساعات في المدرسة. فكيف تستطيع المدرسة أن تغطي المنهج، وكم من الحصص تفوت على الطلبة بسبب هذا التساهل ''غير المحمود''؟ الأكيد أن ساعات الدراسة المسائية ستكون أقل من ذلك، والضحايا هم الطلبة والطالبات.
لتزيد الطين بلة، قررت إدارة التعليم تحويل الدراسة في بعض المدارس الحكومية - لاحظوا أنها غير مستأجرة - إلى الفترة المسائية. الحجة أن عقد صيانة المدارس بدأ في منتصف شهر رمضان، ويحتاج المقاول إلى فترة تتجاوز أربعة أشهر لتنفيذ أعمال الصيانة. اللهم لا اعتراض، ولكن لماذا لم تبدأ أعمال الصيانة بعد نهاية الاختبارات؟ ثم ما هي أعمال الصيانة التي تتطلب إيقاف الدراسة الصباحية لمدة أربعة أشهر؟ بل لماذا لا يقوم المقاول بتنفيذ أعماله بعد خروج الطلبة من المدرسة، خصوصاً أنه يمكن أن يعمل عشر ساعات متواصلة، ويمكن أن يشتغل عُماله على ورديتين لضمان إنهاء العمل في مدة معقولة؟
لم يذكر لي المعلم صاحب العلاقة نوع الأعمال التي تتم في المدرسة، وتأثيرها على الطلبة. أتوقع أن هناك أعمالاً تنتج عنها مخلفات كالغبار والروائح وبقايا قد تضر بالطلبة، وسيتأثر الطلبة بتلك المواد لأنهم يصلون إلى المدرسة بعد خروج عمالة المقاول مباشرة، فهل لا تزال الصحة المدرسية تابعة للوزارة لتقدم رأيها الطبي أم لا؟
يمكن أن أسمي كل هذا بالعمل الارتجالي غير الاحترافي. المسؤولون الذين قرروا أن تبدأ دوراتهم مع بدء العام الدراسي بدلاً من فترة الصيف التي لم يكن لهم فيها شاغل، هم أنفسهم الذين يوقعون عقوداً تبدأ قبل بداية المدارس بأسبوعين، ويضعون أبناءنا تحت تأثير مواد البناء والأصوات المزعجة. هم الذين حولوا نظام الحياة في المنازل إلى حالة من التخبط، فمن أطفال ينامون بعد العشاء، إلى آخرين يعودون من المدرسة بعد العشاء. أطفال يحلون واجباتهم في الصباح وآخرون يحلونها في العصر. يا لها من مأساة يقع ضحيتها في مدينة واحدة فقط أكثر من 20 ألف طالب وطالبة.
طالب الكثيرون منذ سنين بأن يُلزم المسؤولون الذين يقودون عملية التعليم بتدريس أبنائهم في المدارس الحكومية، وكذا الحال بالنسبة للعاملين في كل مجالات الخدمات لضمان أن يشعروا بما يشعر به المواطن من إشكالات تخص قطاعاتهم، خاصة أن العاملين في إدارات التعليم يتوجهون لتسجيل أبنائهم في مدارس التعليم الخاص. يقول أحدهم تعليقاً على الفكرة: إن المسؤول يقدم دائماً للمدرسة القريبة من بيته كل الخدمات لتكون مثالية، ثم إن المدارس يتدنى مستوى أدائها كلما ابتعدت عن الأحياء التي يسكنها المسؤولون.
أتمنى أن أقرأ لأحد المسؤولين في أي إدارة تعليم تبريره لمثل هذه الأعمال المؤسفة.