العمل الخيري ليس بناء المساجد فقط

بحثنا عن فاعل خير لتسديد فاتورة أرملة تعاني صعوبات صحية ومالية هي وابنتها، تسكنان بالإيجار وتعيشان حياتهما باليوم، على ما يقدمه الضمان وأهل الخير. تعاني السيدة هجر أسرة زوجها الذي توفي بعد أن خالف رغبة أسرته وتزوج منها، رغم أنهم مقتدرون مالياً. تروي السيدة من القصص ما يؤلم كل من يسمع، لكنني لن أتطرق لهذه القسوة هنا، إنما لتجربتي الجديدة كلياً.
طلبت منها أن ترسل صورة الفاتورة لأعرضها في إحدى مجموعات ''الواتساب''، ولم يخب ظني، راسلني أحد الأعضاء ''على الخاص''، واستعد لسداد الفاتورة، بل شكرني لأنني أعطيته الفرصة لعمل الخير، تناقشنا حول أسباب ابتعاد الناس عن العمل الخيري، وعدم توافر قنوات موثوقة يمكن من خلالها أن يصل الغني إلى الفقير، بل اعتماد أغلبية المؤسسات الخيرية على بقاء الفقير محتاجاً من خلال تزويده باحتياجاته، دون تمكينه من المشاركة في توفير مصدر رزق دائم.
أذكر أن أول ما فكرت فيه والدتي – غفر الله لها - من أعمال الخير هو بناء مسجد، قامت- رحمها الله- ببناء مسجد وأسهمت في بناء مساجد أخرى، قبلها فعل الوالد– رحمه الله– الشيء نفسه. لا تزال تلك الفكرة مسيطرة على عقليات الراغبين في ترك أثر أو عمل ينفعهم بعد وفاتهم. في مرحلة لاحقة، بدأ كثيرون في تبني مفهوم الوقف الخيري، بل إن إحدى السيدات قررت أن توقف بيتها الوحيد بعد وفاتها رغم أن لها من البنات ستاً، منهن مطلقات تصلهن الصدقات من الناس، فكيف يمكن أن نتقبل أن يكون هناك سوء فهم للعمل الخيري لهذه الدرجة؟ ولماذا يلتفت الناس لإنشاء المساجد في دولة أهلها من المقتدرين عموماً، بل تجد فيها تزاحماً للمساجد في مواقع كثيرة، رغم قدرة السكان على البناء ووجود جهة رسمية مسؤولة عن إنشاء المساجد ولها خطة في هذا المجال؟
يمكن أن نعزو السبب ''أحياناً'' إلى رغبة الناس في تقليد من يرون فيهم الخير وعرف عنهم حب الصدقات وخدمة الفقراء. هؤلاء تعتمد أعمالهم الخيرية على إنشاء المساجد. يعرف الجميع رجل الأعمال الذي لم يترك مدينة صغيرة أو كبيرة إلا بنى فيها جامعاً كبيراً يقدم خدمات كثيرة تشمل غسيل الموتى وتجهيزهم وإيصال الجنائز إلى المقابر، أتيحت لي الفرصة أخيرا أن أرى جامعاً جديداً أنشأه رجل الأعمال في مكة المكرمة، وهو على نمط المساجد التي تنتشر باسم المحسن المعروف، لكنّ هنا فرقاً مهماً في الجامع الجديد، وهو وجود أبراج سكنية ملحقة بالجامع.
يدل هذا على أن الشيخ قد يكون توجه نحو إيجاد موارد مالية يمكن أن تسهم في تغيير الاستراتيجية التي يعتمدها في أعماله الخيرية. إن الإيمان بضرورة وجود أعمال خيرية يتمكن من خلالها الفقراء من مساعدة أنفسهم للخروج من دائرة الفقر والحاجة، هو أمر لا بد أن ينتشر كمفهوم لدى العاملين في المجال الخيري. هذا يستدعي أن نبدع في المجال الخيري وأن يسهم في القرار المختصون في مجالات الاقتصاد والإدارة والمصرفية.
أعجبني ما فعله ناظر وقف في مكة المكرمة عندما حصل على قرض من البنك الإسلامي وبنى برجين سكنيين في موقع الوقف الذي كان عبارة عن بستان مهجور، ليحقق إيرادات تصل إلى مئات الملايين سنوياً. هنا لا بد أن نتعرف على مواصفات ناظر الوقف وأهمية أن يكون من أصحاب الفكر والتخطيط السليم. لنا في النهاية أن نفكر كم سيدر هذا الوقف لو أُدرج جزء من إيراداته في أدوات استثمارية أخرى، يمكن أن تشارك في القرار الاستثماري الجهات الرسمية كوزارة الأوقاف، لكن هذا لا بد أن ينبع من ناظر الوقف.
تضاف إلى مفاهيم الإبداع في المجال الخيري الاستفادة من تجارب الآخرين، ومن التجارب المهمة في المملكة تجربة المهندس محمد عبد اللطيف جميل في المجال الخيري، حيث تمكن من توفير مصدر للرزق للشباب المحتاجين دون الحاجة إلى استجداء أحد، إضافة إلى أعماله الأخرى.
إن العمل الخيري الذي نحتاج إليه هو من النوع الذي يوفر مصدراً للرزق للمحتاجين من خلال تمكين القادرين من العمل، وتكون له القدرة على البقاء بعد وفاة صاحبه، وكذا إمكانية التوسع باستقطاع جزء يمكن استثماره في المجال نفسه أو مجالات أخرى. يجب أن نستفيد كذلك من التجارب العالمية مثل مؤسسة ''بيل وماليندا قيتس'' الخيرية، وتجربة محمد يونس في ''بنك الفقراء''.
إن العمل الخيري الهادف إلى تقليل اعتماد الناس على الصدقات والزكوات، الذي ينتشر فضله ليخدم صاحب المبادرة والمجتمع، ويكون جزءاً مهماً من اقتصاد الدولة، هو ما نحتاج إليه، وهو ما يمكن أن تسهم في دعمه الجمعيات الخيرية لتخرج من قيود عملها التقليدي الذي يزيد من أعداد المحتاجين كل عام، إلى الابتكار الذي يقلص أعداد المعتمدين عليها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي