أيكون المؤمن كذابًا؟

شاهدت مقطعًا يسخر فيه أحد مبتعثينا من شاب أمريكي كان يشاركه رحلة بالحافلة، عرض الشاب السعودي على الأمريكي أن يسافر معه في رحلة إلى القمر. استغرب الأمريكي الدعوة وقال باندهاش: هل أنت جاد فيما تقول؟ فأجاب السعودي أن نعم. من شدة استغراب الفتى الأمريكي قال لزميل آخر اسمع ما يقول هذا الشخص، إنه يريدني أن أصحبه إلى القمر. ظل الشاب السعودي يؤكد للأمريكي أنه يستطيع أن يصل به إلى القمر بسبب استمرار حالة الذهول من هذه القدرة العجيبة لدى الأمريكي.
قد يرى البعض هذا نوعًا من الغباء، وهو ما رآه أخونا السعودي ودليله استمرار محاولته إقناع الأمريكي، لكني نظرت إليه من منظور مختلف أساسه قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حديث رواه صفوان بن سليم أنه قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم: ''أيكون المؤمن جبانًا؟ فقال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ فقال: لا''. نعم المؤمن لا يكذب. ساقني هذا إلى تذكر الكثير من الحالات التي كان فيها الكذب جريمة كبرى لدى الغربيين، ومن ضمنها كذب نيكسون الذي دفعه للاستقالة، وكذبة كلينتون التي كادت تودي برئاسته للولايات المتحدة. هناك قناعة لدى الغرب أن الكذب جريمة كبرى، وهو ما تعكسه تعاملاتهم تجاه الشخص إذا اكتشفوا كذبه عليهم.
في المقابل، ظهرت صورة عالمنا العربي في مقطع جديد من البرنامج الـ ''يوتيوبي'' ''صاحي''، الذي تحدث عن الكثير من المسؤولين ومقولاتهم، وأثبت كذبهم بالوثائق على مرآى ومسمع من الجميع. تكاد تكون قضية الكذب هذه منتشرة لدرجة ألا أحد يصدق الآخر هذه الأيام.
لكن قيمة الصدق التي رفعها الإسلام وأعلى شأن أهلها بل جعلها شرطًا لازمًا للمسلم، تعتبر مسؤولية أولى للأسرة، هي جزء من تركيبة البيت. فالطفل الذي يجيب الهاتف أو جرس الباب ليقول إن أباه غير موجود بإيعاز من أهله يبني في عقله الباطن مشروعية التهرب من خلال الكذب. تستمر هذه المشكلة في حياة الفرد لتكون في مستقبل الأيام صفة لازمة، لتجد كل من تحدثه عن أمر يطالبك باليمين المغلظ ليتأكد من صدق كلامك.
أوجد انتشار الكذب مشكلة أخرى يعانيها كل واحد منا - إلا من رحم ربي، ألا وهي تعدد الشخصيات. تجد الواحد منا يتقمص خمس أو ست شخصيات في يومه، فهو بشخصية عند زوجته وأبنائه، ثم ينتقل إلى شخصية مختلفة تمامًا عندما يتنقل بسيارته خارج المنزل، يصل بعدها لمكان عمله لتكشف شخصية أخرى عن نفسها، ويخرج مع زملائه في شخصية مختلفة تمامًا.
على أن هذه الشخصيات قد تتضاعف في مكان واحد. تجد الواحد بأسلوب وطريقة تعامل معينة مع رئيسه، وبأسلوب مختلف تمامًا مع زملائه، ثم تظهر شخصية عادة ما تكون سلبية أمام المراجع أو المستفيد من الخدمة. المؤكد أننا جميعًا نشكو من سوء تعامل الأشخاص العاملين في قطاعات الخدمات، ولكننا في الوقت نفسه قد نسيء التعامل مع المستفيدين من الخدمات التي تقدمها القطاعات التي نعمل فيها. هذا ما يسمى في علم النفس Paradox ، وهو التناقض الظاهري الشديد الذي لا مبرر له، أو الذي يتناقض مع الواقع المشاهد بشكل صارخ.
يؤدي التناقض الشديد هذا إلى تكوين علاقة سلبية بين مكونات المجتمع. يتحول المسؤولون عن خدمة الناس إلى إنشاء أنماط علاقات مختلفة بينهم وبين من يخدمونهم في محاولة للسيطرة وإثبات الذات، وكأن الوظيفة العامة موجودة لقمع المواطن أو حماية المال العام من تسلطه ونهبه. يقتنع البعض بمفهوم كهذا لدرجة أنه يصبح جزءًا من تكوين المنظومة ككل، حتى عندما يحاول أحد أن يغير هذا النمط فهو يواجه بالرفض، فيضطر لترك المكان أو السير مع التيار ليضمن بقاءه.
نلاحظ جميعًا أن تصريحات بعض المسؤولين تكون نارية في بداية عمله في مكان معين، يقدم الكثير من الوعود ويرسم صورة وردية لأيام المواطن القادمة. يختلف النمط بعد أن يتبنى المسؤول أسلوب العمل في المكان الذي عين فيه بفعل ضغوط الزملاء والمرؤوسين الذين يكونون قد برعوا في تكوين تلك السمعة السيئة وإقناع أنفسهم والآخرين بمشروعيتها. عندها تعمل أساليب المقاومة في أوضح صورها، فيتحول المسؤول الذي يستقبل المواطنين إلى ''غير موجود'' أو ''في مهمة'' أو ''مرتبط باجتماعات''، ونعود لنقطة الصفر للمحافظة على هذا الـ Paradox. يستطيع كل واحد من القراء أن يربط بين كلامي هذا وأكثر من مسؤول.
يصل تأثير التناقض غير المنطقي في مراحل متقدمة إلى إلحاق الضرر بالمواطن فيما يعرف بحماية المنشآت والمرافق العامة أو البنى التحتية، وكأنها أنشئت لشخص قادم من كوكب آخر. يتجلى مثل هذا الأمر في كثير من الحالات التي نشاهدها اليوم، فمثلًا تجد أن المواقع التي يراد حمايتها من السيارات – مثلًا – توضع أمامها صبات خرسانية يمكن أن تودي بحياة المواطن وتتسبب في خسائر مالية كبيرة، بينما نلاحظ في دول أخرى استخدام خزانات المياه البلاستيكية التي تخفف الصدمة وتحمي المواطن في الوقت نفسه. أو حتى في حرمان المواطن من المواقف القريبة من الجهات الخدمية، أو الإلزام بالحضور في حالات لا تستلزم الحضور كوسائل لضمان عدم كذب المواطن أو محاولته ابتزاز الدولة.
حالات كثيرة من التناقض التي نعيشها مصدرها الأساسي هو الكذب والخداع وتقنينهما كوسائل لحماية الذات، لدرجة تتحولان معها إلى وسائل تدمير إذا تبناها المجتمع ككل في ردود أفعال أعضائه على كذب الآخرين. هذا يقودني للتفكير في الحلول التي يمكن أن نخلص المجتمع من حالة التناقض الشديد هذه التي قد أتناولها في مقال آخر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي