فشل تمويل السوق الحرة

رغم مرور خمس سنوات على انهيار بنك الاستثمار الأمريكي ليمان براذرز، فإن العالم لم يعالج حتى الآن سبب اندلاع الأزمة المالية اللاحقة ـ وأقصد هنا بطبيعة الحال الإفراط في الاستدانة. ولهذا السبب كان تقدم التعافي الاقتصادي أبطأ كثيراً من كل التوقعات (في بعض البلدان لم يأت التعافي بتاتا).
والواقع أن أغلب خبراء الاقتصاد ومحافظي البنوك المركزية والقائمين على التنظيم لم يفشلوا في توقع الأزمة فحسب، بل إنهم أيضاً تصوروا أن الاستقرار المالي كان مضموناً ما دام التضخم منخفضاً ومستقراً. وبمجرد احتواء الأزمة الآنية، فشلنا أيضاً في التنبؤ بحجم الآلام التي قد تفرضها عواقب هذه الأزمة.
في ربيع عام 2009، لم تتحدث التوقعات الرسمية عن تعاف بطيء، ولم تنبئنا بأن الأزمة الأولية التي اقتصرت في الأساس على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، قد تؤدي قريباً إلى تأجيج أزمة متسلسلة في منطقة اليورو. ولم تقترب قوى السوق حتى من توقع هبوط أسعار الفائدة إلى ما يقرب من الصفر لمدة خمس سنوات (ولا يزال العد مستمراً).
وكان من بين الأسباب وراء هذا الافتقار إلى البصيرة ذلك الإعجاب الضعيف التمييز بالإبداع المالي، وهناك سبب آخر يتلخص في بنية منطقة اليورو المعيبة بطبيعتها. ولكن السبب الأساسي كان الفشل في إدراك حقيقة مفادها أن أعباء الديون المرتفعة، والتي ظلت ترتفع بلا هوادة عدة عقود من الزمان ـ وفي القطاع الخاص أكثر حتى من ارتفاعها في القطاع العام ـ كانت تشكل تهديداً خطيراً للاستقرار الاقتصادي.
في عام 1960، كانت ديون الأسر في المملكة المتحدة لا تتجاوز 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبحلول عام 2008 ارتفعت النسبة إلى أكثر من 90 في المائة. وفي الولايات المتحدة، نما إجمالي الائتمان الخاص من نحو 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1945 إلى أكثر من 200 في المائة في عام 2008. وطالما كان الدين في القطاع الخاص، فقد افترض أغلب صناع السياسات أن تأثيره كان إما محايداً أو حميداً. والواقع أنه كما لاحظ محافظ بنك إنجلترا السابق ميرفين كنج، فإن ''المال والائتمان والبنوك لا تلعب دوراً مهماً'' في الكثير من الاقتصادات الكلية الحديثة.
وكان ذلك الافتراض خطيراً، لأن عقود الدين تنطوي على عواقب مهمة بالنسبة للاستقرار الاقتصادي. ويتم إنشاء هذه العقود بإفراط غالباً، لأن القروض الخطيرة تبدو في الدورات الاقتصادية الصاعدة خالية من المخاطر. وبمجرد إنشائها فإنها تطلعنا على جمود عمليات العجز عن السداد والإفلاس، مع ما تحمله من إمكانية البيع بأسعار زهيدة وتعطل الأعمال.
ولكن في مرحلة الانخفاض بعد الأزمة، تخلّف الديون المتراكمة تأثيراً ركودياً قوياً، لأن الشركات والمستهلكين الذين أفرطوا في الاستدانة يخفضون استثماراتهم واستهلاكهم في محاولة لسداد ديونهم. وكان العقد الضائع في اليابان بعد عام 1990 نتيجة مباشرة وحتمية للإفراط في الاستدانة الذي تراكم على مدى الثمانينيات.
ويترتب على هذا سؤالان. الأول يتعلق بكيفية الخروج من الأعباء الحالية المترتبة على الديون الخاصة والعامة. لا توجد خيارات سهلة. إن سداد الديون الخاصة والعامة في وقت واحد من شأنه أن يقوض النمو. وبالتالي، فإن تقليص الديون والعجز الحكومي بسرعة قد يؤدي إلى نتائج هدامة. ولكن موازنة التقشف المالي بالسياسات النقدية المفرطة في التساهل يهدد بتغذية العودة إلى الإفراط في الاستدانة في القطاع الخاص في الاقتصادات المتقدمة، وقد أنتج بالفعل الامتداد الخطير المتمثل في ارتفاع مستويات الاستدانة في الأسواق الناشئة.
إن الواقعية والسياسة التخيلية أمران مطلوبان. ومن الواضح أن اليونان عاجزة عن سداد كل ديونها دفعة واحدة، ولكن لا بد أن يكون من الواضح أيضاً أن اليابان لن تتمكن أبداً من توليد فائضاً مالياً أولياً ضخماً بالقدر الكافي لسداد ديونها الحكومية بالمعنى المعتاد لكلمة ''سداد''. والواقع أن مزيجاً ما من إعادة هيكلة الديون وتسييل الديون الدائم (التيسير الكمي الدائم) سيكون في بعض البلدان حتمياً ومناسباً.
ويتعلق السؤال الثاني بكيفية تقييد نمو الاستدانة في المستقبل. ويتطلب تحقيق هذا الهدف إصلاحات ذات تركيز مختلف عن تلك التي تم اتباعها حتى الآن. لا شك أن علاج مشكلة البنوك ''الأكبر من أن تترك للإفلاس'' أمر مهم، ولكن التكاليف المباشرة التي يتحملها دافعو الضرائب نتيجة لعمليات إنقاذ البنوك كانت ضئيلة للغاية مقارنة بالضرر الذي أحدثته الأزمة المالية. والنظام المصرفي الذي لم يحصل قط على إعانات دعم من أموال دافعي الضرائب لا يزال بوسعه أن يدعم الاستدانة المفرطة في القطاع الخاص.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي