إشكالية الخطابة والسياسة
دفعني تقرير صدر أخيرا عن وزارة الشؤون الإسلامية، يقول إنه تم إيقاف 18 خطيباً خلال شهر واحد لتطرقهم لأمور سياسية، إلى الكتابة في الموضوع. كنت قد داخلت على قناة المستقلة مع الدكتور الهاشمي طالباً منه ألا يُصدر الأحكام قبل الإحاطة بكل جوانب القضايا، ذلك أن السياسة ليست قضية مثالية، بل هي أبعد ما تكون عن ذلك في أغلبية الأحيان. وقبل أن يغضب مني القارئ الكريم أريد أن أؤطر حديثي في أربع نقاط يهمني أن تصل إلى الجميع وهي:
- إن هناك من يتحدثون على المنابر دون أن يكونوا على بينة، فهم يتبنون موقف داعية أو كاتب أو شيخ، بناءً على ثقتهم بعلمه وعلاقاته. الإشكالية الأهم هنا هي أنه ليس من حق الإنسان أن يحكم على الآخرين دون أن يعرف كل زوايا وخبايا القضية، فقد يأتي رجل يطالب بحقه لفقء عينه، وتحكم له، بينما خصمه مفقوء العينين. هذه القضية من الأهمية بمكان ولا بد أن يستوعبها كل من يؤثر في الرأي العام، خصوصاً من يمثلون الدين في أعين الناس، ذلك أن ما يقولونه هو شرع بالنسبة لأغلبية المتلقين.
- إن هناك جماعات تخطط وتدبر بليل. وتقرر مصائر الناس بناء على ما تريده هي. هذه الجماعات تبني قراراتها على علاقات مشبوهة مع أنظمة معادية للدولة بل معادية لما نؤمن به، وترى فينا الكفر، وأغلبيتنا يعرف الجهتين. هذه الجماعات كشفت نفسها بمجرد أن حصلت على فرصة للتنفس، ومن حسن حظ الأمة أن مخططي هذه الجماعات لم يكونوا على القدر الكافي من الحصافة والذكاء ليخفوا نواياهم، بل كانوا متعطشين وأعلن بعضهم عن نواياه، ودلت عليهم آثار تصرفاتهم فوقعوا في حبائل نسجوها بأنفسهم.
- إن هناك كماً هائلاً من الضبابية بالنسبة للمواطن العادي. فهو يرى أحداثا وممارسات وتصريحات متضاربة. يرى تناحراً شديداً بين العلماء والسياسيين والعسكريين، ويبحث عن تفسيره لدى من يثق فيهم. هذه الضبابية التي يشترك فيها الأغلبية حتى من المثقفين والعلماء تجعل التثبت أساساً لازماً لكل كلمة يقولها الإمام، لأنها محسوبة عليه في الدنيا والآخرة. هذه يا سادة هي ''السنوات الخداعات''.
- الفتنة هي ما نعيشه اليوم. فتنة تجعل العاقل حيران، ولن ينجو من هذه الفتن إلا من اعتزلها وابتعد عن التكفير والتفسيق لأسباب الانتماء أو التعامل السياسي مع الأمور. الفتن التي نعيشها سببها البعد عن المنهج الرباني والعناية بالدين والتمسك به. انصرافنا اليوم نحو الفتوى واستعجال النتائج وربط كل ما يحدث في العالم بمفاهيمنا القاصرة ونظرتنا المحدودة للأمور، يوقعنا في فتن لها أول ولا آخر لها إلا برحمة من الله.
إن الجرأة في إبداء الرأي أمر محمود، لكنها على المنبر تستدعي أن يتأكد القائل من أنه على حق فعلاً. وقد قال الشافعي رحمه الله ''رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب''. إذاً فالرأي يحتمل الخطأ رغم كل الاجتهاد الذي يمكن أن يبذله الشخص للوصول إلى رأيه.
سبق أن اعترفت في أكثر من مقال بأن جهلي بجوانب قضايا معينة دفعني إلى تبني مواقف خاطئة. وأنا اليوم أدعو الجميع وخصوصاً أصحاب التأثير في المجتمع إلى التثبت والإحاطة بكل القضايا قبل اتخاذ موقف محدد منها. إلا أنني أطالب الخطباء وأئمة المساجد والمعلمين والمحدثين بأكثر من ذلك. وصفتي لكل من يقول رأياً يتبناه غيره مبنية على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم: ''مَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِها بعْدَهُ كُتِب لَه مثْلُ أَجْر من عَمِلَ بِهَا وَلا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، ومَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وزر من عَمِلَ بِهَا ولا يَنْقُصُ من أَوْزَارهِمْ شَيْءٌ'' (رواه مسلم). وهي كالتالي:
إن تبنيك موقفا معينا وإعلانه أمام مستمعيك يستدعي أن تتثبت وألا تضع نفسك تحت تأثير فئة أو جماعة معينة، وأن تعلم أن هناك أمورا كثيرة تغيب عنك، وأن الفتن تستلزم اعتزال مسبباتها. يجب أن تكون لديك القناعة بأن هذا البلد أكثر دول العالم تطبيقاً للشريعة، وأن الدولة لا تتجرأ على الدين ومن يمثلونه.
يأتي أمر مهم لا بد أن يحرص عليه كل من يتحدث أو يخطب في الناس وهو قراءة المنظر العام، ومراقبة الثقات من العلماء الربانيين. فإن وجدت أن عالماً ثقةً لم يصدر رأياً مع أو ضد فئة أو تصرف سياسي، فاعلم أنك باتخاذ موقف أو مهاجمة فئة أو معارضة قرار قد تكون حملت وزرك ووزر من عمل بنصيحتك أو رأيك.
أمر أخير لا بد من التذكير به، وهو أن المجتمع يعاني الكثير من المشكلات النفسية والاجتماعية والأخلاقية، وهناك الكثير من التحديات التي يواجهها الشباب والكبار، وهي بحاجة إلى الطرق أكثر من أمور بعيدة عن تأثير وفائدة خطيب الجامع أو المسجد.