أحجية الكيماوي بين الخوف والتبرير
أذكر عندما عملت في العلاقات العامة أننا كنا نوجه السؤال لمعاوني المسؤول عن رغبته في عقد مؤتمر صحافي. نقوم بمجموعة من الترتيبات المهمة قبل المؤتمر مثل دعوة وسائل الإعلام وتحديد مكان اللقاء وزمانه, لكن أهم الإجراءات التي كنا نحرص عليها هي منع الصحافيين من الاطلاع على ما يمكن أن يؤثر في سمعة الجهة, واستقبال مجموعة من الأسئلة التي يرغب المسؤول في أن توجه إليه.
تكون لدى المسؤول الرغبة في إعلان موقف أو مشروع أو تأكيد على سياسة معينة. هناك – طبعاً – مجموعة مفضلة هي التي تحصل على السؤال. وصل بي الحال إلى معرفة الأسئلة التي وزعتها العلاقات العامة من مشاهدة الشخص الذي يطرح السؤال، بحكم معرفتي بالأشخاص أو الجهات التي يعملون فيها. هذه المؤتمرات هي من الأهمية والخطورة بشكل لا يمكن أن يتوقع الواحد منا أنها يمكن أن تأتي نتيجة قرار مفاجئ أو زلة لسان. فالمؤتمر يتم التخطيط له ويدار بشكل يحقق رغبة الجهة التي نظمت المؤتمر.
تحظى مؤتمرات وزارات الخارجية بحضور كبير، وتغطية واسعة. يأتي هذا من أهمية موقعها في إدارة علاقات الدولة بالعالم الخارجي. ترتفع أهمية تنظيم وإدارة المؤتمرات الصحافية في حالات الأزمات التي نعيش إحداها هذه الأيام. استخدم النظام السوري الكيماوي ضد شعبه، وكانت الولايات المتحدة قد جعلت من هذا الفعل خطاً أحمر لا يمكن القبول بوصول الأزمة إليه.
فعل النظام ذلك بعد أن بدأ يفقد السيطرة، فلم يكن أمامه سوى استخدام سلاح الدمار الشامل المحرم أخلاقياً ودولياً ودينياً. لكن هل كان ذلك مجازفة غير محسوبة من نظام الأسد؟ تظهر الأحداث التالية أن هناك قدراً كبيراً من الشك في ذلك:
استخدم النظام سلاحه الكيماوي في مرحلة أولى فقتل ما يقارب 200 شخص في مواقع مثل خان العسل وسراقب وعذرا والشيخ مسعود. علم الغرب بهذه المخالفات الخطيرة، لكنهم لم يعيروا الأمر الاهتمام الذي يستحقه. لست واثقاً هل كان استخدام الكيماوي بالشكل المكثف الذي حدث في الغوطة هو بتنسيق مع الحلفاء أم أنه بسبب الاعتقاد أن من سكت عن 100 سيسكت عن ألف، أم أن القادة الميدانيين هم من اتخذوا القرار بـ ''زيادة الجرعة''، أم أنه بغرض إحراج الإدارة الأمريكية، وإثبات أنها لن تفعل شيئاً.
بعد استخدام الغاز القاتل للفتك بـ 1500 شخص توالت التصريحات والشجب والاستنكار حتى من النظام نفسه الذي كان يعلن أنه ليست لديه ترسانة كيماوية. استمر تبادل الاتهام وتمييع القضية حتى وقفت أمريكا وقفتها التاريخية. قال أوباما إنه لن يسكت على هذا التجاوز الخطير وبناء عليه اجتمع بكبار مستشاريه واجتمعت لجنة العلاقات الخارجية لتدعم الرئيس.
أكثر الناس خوفاً كانت الإدارة الأمريكية التي لا تريد أن تدخل في أي صراع عسكري، خصوصاً مع اللهجة الحادة التي كانت تتبناها موسكو. معلوم أن أوباما عمل طول حياته في مجال المحاماة ثم عضوا في مجلس الشيوخ في ولاية إلينوي ومجلس الشيوخ الأمريكي. أما بوتين فهو حصيلة خبرة أمنية واستخباراتية طويلة عاشها بين بلدين أحدهما شيوعي والآخر يدعي الديمقراطية، وهو أبعد ما يكون عن ذلك.
استطاع بوتين أن يبقى في رأس السلطة بناء على خبراته السابقة، فأخذ منصب الرئيس ثم رئيس الوزارء ثم عاد للرئاسة بحيلة دستورية. تمكن بوتين من إدخال الرعب في قلوب الأمريكان، كما فعل مع خصومه السياسيين، ومن ثم دفعهم للتراجع خطوات للخلف، فلم يبق سوى محاولة حفظ ماء وجه الرئيس الأمريكي القائد الأعلى لأكبر ترسانة عسكرية في العالم.
لا أستبعد أن تكون المقايضة من تصميم وإخراج بوتين، فعندما قال أوباما إن الضربة قادمة لا محالة. بدأت عمليات التهويل والإرهاب الفكري فخرجت بريطانيا من المعادلة، ومن ثم خرجت أغلبية دول أوروبا من المشاركة الفعلية إلى مجرد الدعم المعنوي للضربة العسكرية. ثم جاء تصريح كيري الذي أجاب فيه عن سؤال لصحافي عن إمكانية تفادي الضربة العسكرية، بقوله: لا بد أن يسلم الأسد كل كميات السلاح الكيماوي خلال أسبوع.
التقط لافروف وزير خارجية بوتين تصريح كيري وبحركة مكشوفة تسارعت الأحداث خلال أربع ساعات. دعا لافروف سورية لوضع ترسانتها تحت الرقابة الدولية، وأوحى إلى المعلم أن أقبل بالفكرة حتى نسيطر على الرأي العام الأمريكي ومجلس شيوخهم.
يبقى السيناريو للمقبل من الأيام، حيث سيطلب الكونجرس من أوباما تقديم ما يدل على أن سورية يمكن أن تخضع للرقابة الدولية. تلغى الضربة، ويبدأ البحث عن الترسانة الكيماوية على غرار ما يحدث في قصة نووي إيران. يبقى الفقراء والعجائز والأطفال تحت قصف النظام وحلفائه روسيا وإيران وحزب الشيطان حتى يصل العداد إلى 200 ألف، ثم يكون لكل حادث حديث.