لا صلاحيات إدارية مطلقة
تقنين الصلاحيات في إطار تشريعي وقانوني ممارسة صحية لضبط القرارات والصلاحيات الإدارية للمناصب المختلفة، سواء في القطاع العام أو الخاص. وكلما كانت حدود الصلاحيات واضحة المعالم، تكون القرارات منطقية بل وحتى متنبأة، يمكن التخمين بها. وهيكلة الصلاحيات وتقنينها وتفصيلها ممارسة اعتياده في البيئات المتقدمة التي يحرص القائمون عليها على إيجاد مكان صحي للعمل. أما البيئات التي تفتقد إلى وضوح حدود الصلاحيات، فيتضح فيها بشكل جلي التخبط في القرارات، بل وحتى إخضاعها للمزاج الشخصي والحالة النفسية للأفراد، فتتحول المنشأة سواء حكومية أو خاصة، إلى متنفس شخصي لمزاج صاحب الصلاحية، وهذا بلا شك حالة غير سوية وستنعكس على أداء المنظومة مع الوقت. بعض البيئات المتقدمة يجد صاحب الصلاحية نفسه فيها عاجزا عن اتخاذ القرار دون سند قانوني واضح، وحتى لو ثبت وأثبت أن في قراره صوابا ومصلحة، دون سند قانوني وتشريعي واضح يعطيه صلاحيات اتخاذ قرار يجد نفسه صاحب الصلاحية مكتوف اليدين.
وهذا ما دفع بنجامين لوينسكي -حاكم سلطة المال في نيويورك - إلى البحث في مستند قانوني يعطيه صلاحيات إيقاف شركات الاستشارات المالية ذات الأداء الضعيف والمتخبط. ومكمن الصعوبة هنا أن الشركات ذات طبيعة ''استشارية''، يعني صعب تحميلها مسؤولية، لأنها بكل بساطة جهة ''استشارية'' غير ملزمة، والقرار في النهاية قرار من استشارها، واتبع ''مشورتها''. وظل بنجامين مكتوف اليدين حتى وجد قانونا قديما يعود إلى 1892، يعطيه صلاحيات إيقاف شركات الاستشارات التي يثبت قيامها بأعمال يشتبه في مخالفتها ''روح القانون'' عن تقديم الاستشارات للمصارف وشركات التأمين التي تحمل تصريحا للعمل في نيويورك. ولائحة المتطلبات الجديدة لشركات الاستشارات القانونية التي ينوي بنجامين التقدم بها ستطول وستشمل الكشف عن المصالح المالية التي تربط بين المستشير والمستشار، بل وتشمل أيضا العقود المستقبلية التي ''ربما'' تكون تحت الدراسة، التي يحتمل توقيعها بين المستشير والمستشار. وصناعة الاستشارات في الولايات المتحدة صناعة ''مليارديرة'' ودخول العاملين بها عالية جدا، ومطالب المزيد من الشفافية في هذا القطاع مطالب قديمة حان وقت تحقيقها.
حتى بنجامين لوينسكي الذي أعاد للخزانة الأمريكية ما يزيد على ثلاثة مليارات دولار في عام واحد فقط، الذي حطم أهم بؤر غسل الأموال في تاريخ المصارف الذي بدأ أهم حلقات تفعيل محاصرة مال الإرهابيين والمجرمين في العالم، احتاج إلى سند قانوني للاستناد على قرار يحقق مطلبا ومصلحة واضحة للجميع. وهذا التقييد الذي يعانيه بنجامين رغم إنجازاته العظيمة، ظاهرة صحية تدل على مستوى متقدم جدا من التشريع القانوني والرقابة الإدارية والإحساس بالمسؤولية تجاه حقوق الكل حتى ولو بدر منه جرم واضح للعيان.
إن تقنين حدود صلاحيات المسؤولين في حدود القوانين والتشريعات المقررة، عمل متحضر ومتقدم ولا يأتي إلا بخير على الجميع. كما أن توضيح وتفصيل المسؤوليات المنوطة بكل مهمة ظاهرة إيجابية تحقق الفوائد المرجوة من كل عمل. كما لا ينبغي السماح لأي مسؤول ''مهما بلغت إنجازاته المالية والإدارية'' بالتمتع بصلاحيات مطلقة أو حتى شبه مطلقة، لا بد لجميع القرارات أن تكون مستندة على قوانين وتشريعات وإجراءات واضحة ومعتمدة. فالخطأ لا يصحح إلا بالصواب، وبيئات العمل يجب ألا تخضع للأهواء والأمزجة حتى لا تتعرض لتقلبات النفوس والأهواء. لا بد للقانون أن يسود على الجميع، كما لا ينبغي أن يكون لأحد كائنا من كان نفوذ يعلو على القانون. إن سلسلة التحقيقات التي قامت بها سلطة المال في نيويورك وما نتج عنها من تفكيك لأوكار غسل الأموال وبؤر تمويل الإرهاب يجب أن يقرأها كل دارس وممارس للعمل المالي والقانوني، فما نتج عن هذه التحقيقات سيشكل مستقبل المال والقانون في الحقبة الزمنية المقبلة، التي نرجو أن تكون أكثر استقرارا من الماضي بما يحمله من مآس إنسانية عميقة.