هم السفر

أبقى هذا العام شهر آب (أغسطس) في منطقة عسير. أهم مزايا الجو هنا هو أنه يكون الأفضل في هذا الشهر ''بأمر الله تعالى''. شهر آب (أغسطس) عُرف بأنه أقسى الشهور حرارة في كل دول العالم شمال خط الاستواء، إلا في مناطقنا الجبلية التي تعيش أجمل شهور السنة وأكثرها اعتدالاً. أغسطس هذه السنة لم يختلف كثيراً، بل إنه كان أكثر الشهور مطراً واعتدالاً في درجات الحرارة.
حقيقة اكتشفها إخواننا في الكويت والإمارات، فحولوا تواريخ إجازاتهم لتوافق هذه الجمالية الطبيعية التي تعيشها المنطقة. كنت أقود سيارتي البارحة وكانت درجة الحرارة 16 مئوية، أرسلتها لكل من عاتبني على البقاء هنا. يزيد هذا من ألم قرار السفر لمواجهة الحياة بحقائقها الرتيبة، مدارس، دوام، ومكيفات. أستغرب لماذا يُلزم أبناؤنا وبناتنا بدخول صفوف الدراسة في هذا القيظ، اللهيب، والغبار فقد أسماه الأولون ''آب اللهاب''، وهو ما يجعل كل العالم يبدأ الدراسة في سبتمبر.
يبدأ هم السفر بـ ''حوسة'' عدم التنظيم. ليس هناك ما يعطيك الفرصة لتخطيط مواعيد سفرك مبكراً. كل عضو في الأسرة العتيدة له أفكاره وله مخططاته. ثم تأتي التزامات أسرية تجعلنا غير قادرين على تحديد مواعيد محددة للسفر، مع أننا من أحوج الناس إلى ذلك. نحتاج إلى أن نخطط برامجنا مسبقاً لأنه إما أن تخطط لسفرك أو تضطر للسفر على الخطوط البرية التي منها تكتشف معنى ''وعثاء السفر''. محطات لا تفي بأقل المتطلبات التي يحتاج إليها المسافر. مساجد لا يمكن أن يتقبل أحد وضعها في دولة دينها الرسمي الإسلام. خدمات النظافة هي أبعد ما تكون عن ذلك.
الرقابة البلدية معدومة، فتجد المطاعم التي لا يمكن أن تثق بما يقدم فيها. تجد المخلفات والذباب والحشرات تسكن كل الاستراحات ومواقع الخدمات التي تمر بها. ثم تجد من يبيعون مواد غذائية غير صالحة للاستهلاك الآدمي. لذلك يلجأ الكثيرون لتحضير ما يحتاحون إليه من الغذاء في بيوتهم قبل أن ينطلقوا في رحلة هي أقرب ما تكون إلى المغامرة.
بلادنا كبيرة ومساحتها تجعل السفر فيها مخاطرة حقيقية. ذلك أن أية إشكالية يواجهها المسافر في منطقة صحراوية تبعد عن أقرب مدينة 200 كيلومتر تؤدي إلى الوقوع ضحية الحر وانعدام خدمات الطرق سواء الخاصة والعامة. قد يكون هذا مبرراً بسبب انخفاض الضغط على بعض الخطوط غالبية أيام السنة، لكن الربحية لا يمكن أن تكون العامل الوحيد الذي تبنى عليه قرارات توفير خدمات الطوارئ والمساعدة على الخطوط.
البديل الثاني الذي يستمتع به كل العالم إلا نحن هنا هو القطارات. هنا سأسكت عن الكلام المباح وغير المباح في هذا المجال، لأننا بانتظار خطط طموحة لربط المدن الكبار بالقطارات، وربط المناطق ذات العوائد الاقتصادية من خلال نقل المواد الخام إليها. أما البقية فلهم الله.
يبقى البديل الأكثر إزعاجاً وإهانة ألا وهو السفر بالجو. عندما قرر ابني أن يسافر قبلنا، وجدت له رحلة بعد شهر من الموعد الذي يريد. قرر ''من فرط حماسته'' أن يغامر بالوقوف في قوائم الانتظار. فعل وانتظر، ثم انتظر، ثم انتظر دون جدوى. كان الركاب يتزايدون على قوائم الانتظار، والموظفون يديرون العملية بطريقة ''شرعية'' وهي الأقربون أولى بالمعروف. فما أن يتوافر مقعد حتى يجد قريباً أو صديقاً أو صديق قريب أو صديقاً جاهزاً على البوابة. تمكن ابني من السفر بطريقة إبداعية ساهم فيها حظه، ونخوة مسافر قريب، و''كفاءة '' منسوبي الخطوط السعودية بعد أن انتظر 18 ساعة في المطار، الذي كتبت عن حاله قبل أشهر، ولا تزال المعاناة فيه في ازدياد.
يمر كل مسافر في أي من مطارات المملكة بتجربة فريدة كل مرة يسافر فيها، أعرف أنني كذلك. فمن طرق مبتدعة في إلغاء الحجوزات المؤكدة، إلى المطاردة بالهواتف الجوالة برجاء أن يتحدث الموظف مع الشخص الموجود على الطرف الآخر، إلى جر المسافرين إلى البوابة من قبل الموظف، إلى وجود موظفين لا عمل لهم سوى الهمس في آذان زملائهم، إلى رؤساء الفترة الذين لا نشاهدهم إلا إذا كان لدينا توصية. إلى أمور كثيرة عجيبة.
آخر المشاهد كان في مطار أبها الإقليمي، دخل رجل المطار من دون حجز على أمل التسجيل في قائمة الانتظار. وجد قبله عائلة من خمسة أشخاص، وشخصاً مثله فاستغرب الحال وسأل عن سجل الانتظار. قيل له إن السجل مع المشرف بعد أن اشتكى 140 مسافراً من أن بعضهم أكملوا عشرين ساعة دون أن يسافر أي منهم، بينما يأتي آخرون ويأخذون المقاعد. انشغل المسافرون الشاكون مع المشرف، وحان موعد الرحلة التالية. جاء موظف ليسأل صاحبنا عن وجهته فقال: الرياض. دعاه الموظف لأخذ بطاقة صعود الطائرة مع المجموعة الجالسة معه. كان هذا عقاباً لأولئك الذين اشتكوا من 20 ساعة من الانتظار لتصبح 23 ساعة, فالرحلة القادمة بعد ثلاث ساعات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي