كفارة يا شيخ (1 من 2)
أذكر عندما كنت في سنوات الطفولة في الطائف أنه كان هناك أشخاص ممن يتركون فرشهم في السجن – مجازياً – لكثرة الوقت الذي يقضونه في السجن. فبين مخالفة وأخرى لا تمر أشهر. كان هؤلاء يمثلون رمزية معينة لفئة من الشباب في ذلك الوقت. أسماؤهم مشهورة، ويرون في السجن مفخرة ودليلا على العنفوان والشباب. وكان الواحد يخرج لتقابله عبارة ''كفارة يابو فلان''.
تراوحت الجنايات، التي يرتكبها هؤلاء من السرقة إلى المضاربات والمخالفات الأخلاقية المختلفة، لكنني أذكر واحداً كان ممن اعتبرناهم في الحي من الصالحين. وتم القبض على الرجل بسبب مخالفة مالية، حيث سلب مبالغ من أشخاص سلموه أموالهم لاستثمارها. طبعاً لم تكن تلك أول عملية اختلاس تتدثر بعباءة الدين، لكنها بالنسبة لأهل الحي كانت صدمة كبيرة فيمن وضعوا ثقتهم فيه، وكانوا يصلون خلفه الصلوات الخمس.
على أنني لم أتعلم من تلك الحادثة شيئاً، فقد وقعت شخصياً ضحية لرجل مماثل كان يؤذن في مسجدنا بعد تلك الحادثة بأكثر من ثلاثين سنة. كان الرجل قد عرض علينا كفالة الأيتام بمبالغ معقولة جداً، وكان يعرض علينا كل فترة صور الأطفال ورسائلهم المخلصة والفرحة بما يصلهم من كافليهم من أموال تعينهم على حفظ القرآن والعلم وتحسين فرصهم المستقبلية. جميلة تلك الصور والشعور الذي كانت تنشره بين مجتمع الحي، على أن كل واحد كان يحاول أن يخفي عمله رجاء أن يكون في ذلك بعد عن النفاق.
هذه النقطة بالذات هي سبب مهم وراء الكثير من عمليات الابتزاز والسرقة، التي يمارسها الكثير من مدعي التدين. يعمل الناس على المحافظة على سرية أعمالهم الخيرية رجاء المزيد من الأجر. يبقى الناس تحت تأثير أشخاص فاسدين لفترات طويلة لعدم علمهم بما حدث مع غيرهم، أو حجم تعاملات الشخص الذي يبتزهم، أو عدم رغبة آخرين في كشف ما وقعوا فيه من أخطاء ليستمر هؤلاء اللصوص في الضحك على الذقون باسم الدين.
أظن أن الكثيرين منا في هذا المجتمع المتدين ما زالوا تحت تأثير المظهر الخارجي للأشخاص. هذا المخدر الذي نختار أن يسيطر على قراراتنا وقناعاتنا وحكمنا على الآخرين جلب الكثير من الخسائر لمجتمعنا ولأفراده. خسائر اقتصادية وسياسية واجتماعية. ثم يأتي الوقت الذي نقول فيه جميعاً: ''والله شكله ما يدل على فعله''.
على أن قضية مصادرة التفكير والعقل والمنطق، ليست مشكلة سعودية أو عربية أو إسلامية، وإنما إنسانية. والإنسان يميل بطبعه إلى تكوين صورة نمطية للأشخاص والهيئات والجهات. ولهذا فالمتدين يرتبط فهمه في العالم كله بما يمثله الدين من قيم وأخلاقيات، ولهذا نربط بين من يحمل مظهر الدين بجوهره ليكون كل من يحمل مواصفات معينة قادراً على أن يضمن اختراق المجتمع بمجهود أقل من غيره. هذا صحيح في كل دول العالم إلا ما ندر.
عندما يقف الشيخ أو القس أو الراهب أمام الجموع ويتحدث عن موضوع معين، فإنه قادر على تغيير الرأي العام نحو وجهة نظر معينة اعتماداً على تلك الجزئية التي توجد داخل قلوب الناس وتضخيماً لها. ولهذا فإن الكثير من الدول عملت على ألا يحصل على ميزة التعامل مع تكوين المفاهيم الجمعية إلا من هو مؤهل لذلك، سواء من خلال بحث السير الذاتية لهم، أو ضمان حصولهم على كم كاف من المعلومات أو مطالبتهم بعدم إقحام قناعاتهم الشخصية فيما يقولونه في لقاءاتهم أو محاضراتهم أو خطبهم.
المعقول أن يتحدث المرء في مجال يفهمه ويستطيع أن يحيط به علماً. هذه جزئية مهمة للمحافظة على الترابط بين الشارع ورجال يمثلون الدين، وإلا فستتحول العلاقة إلى انعدام ثقة يعقبها انتكاسة في السلوك الاجتماعي نحو الابتعاد عن الدين, ولا بد أن الكثير منا يعرفون كيف تحول أشخاص بعينهم من مرتادين متحمسين للدروس والمحاضرات إلى أعداء يشتمون كل من يحاضر أو يخطب أو يوجه. إنه فقدان الثقة الذي ينتج عن عدد من المفاهيم التي ذكرتها هنا مثل استغلال الدين لمصالح شخصية أو إقحام الرأي الشخصي في قضايا لا يحيط بها المتحدث أو مصادرة تفكير الآخرين.
أكتفي بهذا القدر من التورية، وأدخل في صلب موضوعي. كنت خلال فترة مضت أعارض الكثير من القرارات التي تختلف مع قناعاتي أو ما أتمناه لوطني. وهو أمر محمود بشرط أن يحيط المرء بكل ملابسات القرار ويبني على معلومات كاملة لتكون معارضته عادلة، وهو أبسط شروط الحكم على الآخرين.