العرب أكثر شعوب العالم جهلا بالسياسة

إن أبعد أمة عن السياسة هم العرب، ربما لأنهم عاطفيون أكثر من غيرهم، وربما لأنهم يحكمون على ظاهر كل شيء وظاهر كل صورة، ويستيقنون ظاهر كل قول. وهذا يفضي إلى تصديق ما لا يجوز تصديقه، والتسليم بما لا ينبغي التسليم به. والركون إلى التودد ولو كان فيه دلائل عدم الصدق بادية ومتجلية. وربما لأن الشعوب العربية من تاريخها الضارب في البداوة لا تعني السياسة لها شأنا.. وأنها معنية بالتجارة أو الحرب أكثر من السياسة. أي أنها حضارة تستند إلى سياسة القوة، لا على قوة السياسة، بقاعدة أن القوي في القبيلة وحده هو الذي يكون رئيسا، والقبيلة الأقوى هي التي تستبد بجيرانها وغنمهم. وهي التي تُغير ولا يغار عليها. ولم يكن ثمة مقتضي لسياسة تمكن الأطراف القوية من التعايش لو قدر لها أن تلتقي على قليل من ماء أو قليل من كلأ.
وأبعد الناس عن السياسة هم العرب أيضا لأن عقلهم الجمعي لا يجزئ الصورة، ثم يعيد تركيبها، وتكوينها، ويحكم عليها منفردة ومجتمعة. ما زال العقل العربي الجمعي يحكم على كل شيء بلونين فقط أبيض أو أسود. ما زالت مفاهيم الشيطان أو الملاك هي السائدة، فإما أن تكون طاهرا تماما، أو نجسا تماما. لا يوجد حالة التعاقب المحتمل على الصواب والخطأ، وأن الإنسان المصيب في هذا الرأي قد يخطئ في غيره، وهو ذاته بكل صفاته الجميلة والكريمة والرفيعة، ولا يوجد في المجتمعات العربية والإسلامية "غالبا" ما يسمى "حق الخطأ"، ذاك الذي يطلب الحق فيخطئه ولا يصيبه، وهو ليس كمن يطلب الباطل ويسعى إليه فيصيبه.
غالبا تكون رفيعا وكبيرا ومتعاليا طالما أنت ــ متوافق ــ ومتماثل ــ ومتطابق ــ تماما مع الصورة الجمعية، وتكرار لعقل المجتمع، ولقناعاته. ولما يعتبره المجموع صوابا، وما يعتبره المجموع خطأ، وإن أي مخالفة في رأي، أو خطأ في اجتهاد سينقلك فورا ومباشرة إلى الأسود وإلى الشيطان وإلى الخبيث. وليس من المتيقن أن ترجع إليك صفات البراءة والطهارة تارة أخرى.
غياب القدرة على فهم أن اختلاف الرأي لا يفسد الود، ولا يباعد ما بين القلوب الطاهرة، ذاك حركة العقل من المقدمات إلى النتائج، من التصور للموضوع المختلف والمتعدد إلى الحكم المتعدد بتعدد التصور عنه.
ابن خلدون ــ رحمه الله ــ كان يعتبر لهذا سببا بعيدا له صلة بقمع العربي وقهره، والمقموع والمقهور عبر التاريخ لا يستطيع أن يكون حرا ولا عادلا. وهذا ما جعل الدهماء والغيلان تسري في العواصم العربية فسادا بما لا يملك أحد القدرة على صدها والسيطرة عليها، وهي ذاتها المجتمعات الإسلامية العربية، والقروية البسيطة التي كانت عن قريب تصوم رمضان، وتحج البيت، وتفي لله بالصلاة تامة غير منقوصة عن فرض واحد منها!
غاية الأمر وجدت نفسها قد انحل القيد من أقدامها، وانكسر جدران السجن الكبير، وبذا فقد السجين توازنه، فقد وعيه، وفقد ما كان يظن أنه يملكه وهو قيمه وأخلاقه التي يفترض أنها أصيلة جدا وأنها كانت قبل الإسلام في قصة حضارته العتيقة. الإسلام جاء ليتمها ويكملها وينضجها ويعمقها. في الجذور والأغصان والورق والثمر.
والعرب أبعد أمة عن السياسة، لكونهم على عجلة في كل شيء يستعجلون مجيء كل شيء قبل أوانه، وحين يجيء لا يمهلوه أجله المقدر له لتمام أمره، فالغالب عليهم البداوة والبعد عن صبر الفلاحة والزراعة التي تربي صاحبها على المسافة العاقلة بين البذور وبين الثمر، وبين الغرس وبين الجني.
وهذا جنون الرغائب في الثورات العربية اليوم، كل شيء بعد زوال القهر والقمع بات لا يمكن الصبر عنه، وكل نقص يجب أن يستكمل الآن وبعيدا عن مقدماته الطبيعية. ويجب أن يفي الحاكم بعد الثورة بكل الفواتير المتأخرة التي تركها النظام السابق خلفه دون سداد ووفاء. ولا عقل يبصر المقدمات، ولا عقل يحاول أن يفهم الممكن والمستحيل، ولا عقل يُبصِّر العامة بالتريث الواجب الذي يفرضه تغير الواقع، والتريث الواجب الذي يفرضه كل تغيير، وكل تحول نحو الأفضل. وضعف الطالب والمطلوب في أكثرها.
جزء كبير من عدم الاستقرار لأن العربي كفرد غالبا يتصف بالأنانية، وينزع للتفرد بالغنيمة، وحبسها عن غيره، وهذا ما جعل نزاعات التقسيم، وصناعة الأقاليم، وتكاثر الدول، من تشظي الدولة الواحدة. ربما أيضا مفهوم القبيلة القديم رسخ مفهوم الأنا الفردية، والأنا الفردية في دائرة خاصة "القبيلة" هي كيان قائم بذاته له صفاته الخاصة التي تجعله أفضل من غيره، والتي تجعل الآخرين أقل منه، وتجعله يتعايش مع الآخرين في الوطن في إطار تقبل تفاوت الدرجات واختلاف المراتب. يجعل نفسه في سنامها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي