40 ألف حصة دراسية مهدرة

لا أذكر تغيب أي معلم طوال مدة دراستي في المراحل الثلاث: الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية. بعدها درست الجامعة في الولايات المتحدة ولم تلغ أي محاضرة خلال سنوات دراستي هناك كلها، فالدكتور المرتبط بعمل يكلف محاضراً ليقوم بمهمته. لهذا استغربت نتائج دراسة أكدت ضياع 15 ألف حصة دراسية على الطلبة بسبب غياب المعلمين كل ثلاثة أشهر، هذا يعني 40 ألف حصة في العام الدراسي تؤثر في مليون و600 ألف طالب. أظن أن هذا يفتح المجال لأسئلة مهمة.
سؤال عن مدى الالتزام الذي نتوقعه من الأبناء في المستقبل المنظور ما داموا تعودوا على أن قدواتهم "وهم المعلمون هنا" غير منضبطين في حياتهم العملية. لاحظوا أن النسبة سترتفع بشكل كبير عندما نتحدث عن الجامعات، فأنا أشك أن أبنائي الذين يرتادون الجامعة هم فعلاً كذلك من كثرة ما أراهم "متبطحين" في المنزل بشكل يجعلني أتساءل ماذا يتعلمون في الجامعة؟ ما كم المعلومات التي يحصل عليها المسجل في مادة لا يتجاوز حضور أستاذها 25 في المائة من المحاضرات؟
إن ما نشاهده اليوم من سلوك في مواقع العمل نتيجة للبيئة الإدارية في المنشأة، لكن القناعة بأهمية الوظيفة وضرورة إعطائها جزءاً رئيساً من برنامج حياة الموظف، هو ما يربط الموظف بعمله ويسهل عملية انتقال الموظف إلى بيئة عمل جادة. يؤدي عدم الاهتمام بمنح الوظيفة حقها من الوقت والاهتمام إلى فقدان عنصر المبادرة والتنافس الشريف نحو تحقيق النتائج الإيجابية. عناصر كهذه تبرز في سلوك الموظف عندما يكون مرتبطاً بالوظيفة ومهتماً بأن يتقدم فيها كجزء أساسي من حياته.
السؤال المهم الثاني وهو كم من المعلومات سيتلقى الطالب خلال فترة حضور أقل من قبل المعلم. إن كانت المناهج موضوعة بطريقة علمية فالأكيد أن المعلومات التي سيحصلها الطالب خلال فترة أقل ستكون أقل بالتأكيد. هذا هو واقع الحال في مدارسنا. حيث تنتشر قضية الملخصات التي يحاول من خلالها المعلم أن يحمي فترات غيابه أو عدم تركيزه في تقديم المعلومة من خلال تقديم عدد من الصفحات يلتزم الطلبة بقراءتها، ويلتزم المعلم بعدم تجاوزها عند وضع أسئلة الامتحان. في هذا العنصر يبدو اهتمام الطرفين بالنجاح في الامتحان بغض النظر عن كم المعلومات التي حصل عليها الطالب. هل يتذكر أحد منكم المذكرات الإضافية التي كان الطالب مسؤولا عن قراءتها زيادة على المنهج المعتمد؟
سؤال مهم آخر يجب أن تدرسه وزارتا التربية والتعليم والتعليم العالي، وهو: هل الامتحان هو الهدف الحقيقي للعملية التعليمية، أم أنه لا يتجاوز كونه وسيلة لقياس كم المعلومات التي استوعبها الطلبة؟ إن التركيز في العملية التربوية على الامتحان كارثة لا تزال تقع تحت وطأتها أغلبية دول العالم الثالث.
تجاوزت الكثير من الدول المتقدمة قضية الامتحان، وأصبح بإمكان الطالب أن يتجاوز المرحلة الدراسية دون الدخول إلى قاعة يمارس داخلها أكثر أساليب التخويف والترهيب الذهني. الترهيب الذي نراه يؤدي اليوم إلى إصدار قانون من قبل البرلمان يحدد ماهية الغش في الامتحان، وما أساليب الغش، وكيف يعتبر الطالب غاشاً؟ وهو قانون حقيقي صدر في المغرب خلال الأيام الماضية. بل يتجاوز الترهيب مداه عندما نكتشف أنه في دولة مثل تونس تم نشر القوات المسلحة قرب مراكز الامتحانات لمنع الغش من قبل طلبة الثانوية العامة.
تحسن الحال لدينا عندما تمكنت الوزارة من إلغاء أساليب الترهيب التي كانت تشمل إرسال الطلبة إلى مدارس غير مدارسهم لأداء الامتحان، ومنع الطلبة من الخروج من القاعات مهما كان السبب، وعمليات التفتيش التي تتم في مداخل قاعات الامتحانات، وكأن الامتحان غاية وليس وسيلة. لكن هذا الأمر مرتبط بعناصر مهمة أخرى لا بد من تهيئتها، وأهمها المعلم وبيئة المدرسة.
أصبح الطالب في الدول التي تجاوزت إشكالية الاختبارات ينجح بشكل تلقائي، لأنه ليس ملزماً بدخول الامتحان، إنما مطالب باستيعاب وتطبيق مجموعة من المهارات التي تؤهله للمرحلة المقبلة. هذه المهارات قد تكون حسابية أو علمية أو ذهنية أو لغوية أو أدبية، لكن إبرازها وتطويرها يتم من خلال وسائل التعليم الحديثة التي توفرها المدرسة. تشمل الوسائل المختبرات العلمية واللغوية والتقنية. والمسارح وصالات الألعاب وفصول الدراسة وورش المهارات المختلفة ونشاطات خدمة المجتمع التي يحاسب عليها كل طالب.
يعتبر المعلم في هذه المدارس إحدى الركائز، فهو على مستوى عال من التأهيل العلمي، ويخضع لاختبارات ذهنية ونفسية واجتماعية ومهارية، تضمن ملاءمته للوظيفة. ويمر بمراحل تقويم عديدة خلال العام الدراسي تجعل منه أقرب إلى وضع الطالب لدينا، وهو ما يجعل مخرجاته منضبطة مع المطلوب في منظومة التربية، على أن الطلبة يعبرون إلى مراحل دراسية أعلى ويمكن الحكم على كفاءة المعلمين من خلال مخرجاتهم، وهو ما تراقبه الأجهزة التربوية الحاكمة في هذه الدول كوسيلة لتقويم كفاءة المعلمين.
نأتي لعنصر مهم آخر وهو المنشآت التي توفرها المدرسة. إن تنمية المهارات من خلال العمل الحقيقي، والتنفيذ الشخصي للمهارات التي يتعلمها الطالب سواء في مختبرات العلوم أو المسرحيات التاريخية التي تحكي المادة نفسها أو ورش العمل التي تنمي المهارات الشخصية، أو الملاعب التي تمارس فيها الألعاب طوال اليوم حتى ساعات الليل الأولى. هذه الإمكانات تسهم في العملية التربوية بنسبة كبرى وتستدعي تأهيل المعلمين بما يتجاوز المعرفة المرتبطة بالكتاب.
وما دمنا في حال تجعل الاعتماد على المعلم أكبر من كل العناصر الأخرى، فالأولى بالوزارة أن تهتم بمعالجة كل الثغرات التي تؤدي لغياب المعلم، وقد يكون العقاب وسيلة من لا وسيلة له، خصوصاً مع عدم تأهيل الكوادر الإدارية في المدرسة، وفقدان المصداقية بين مختلف المكونات،على أن تركز الوزارة على أهمية تقويم المعلم من قبل الطلبة والإدارة ومن خلال نتائج الطلبة في نهاية العام، وتستمر في تطوير مهارات المعلمين وإدخال المزيد من وسائل التعليم الحديثة لتسهيل العملية التربوية. وتبذل كل ما يمكن لضمان وجود المعلم بين طلبته أطول فترة ممكنة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي