البيضة
لعبت البيضة دور البطولة في التاريخ البشري، بل غيّرت وجهه أحيانا.. فالأسطورة الهندية تقول إن الخليقة نشأت من بيضة ذهبية (هاراتيا كارتيا) والأسطورة الصينية تحدثت عن بيضة كونية داخلها (الين) و(اليانج) السالب والموجب أو الأنثى والذكر فيما يتحدث العلم عن بيضة السديم وانفجارها الكبير الذي شكل الكواكب والنجوم والمجرات.
قد تكون بيضة كولمبس أشهر بيضة في التاريخ.. وتقول الحكاية إنه حين عرف البحارة أن الملك سيقيم حفلا لـ "كولمبس" احتفاءً باكتشافه أمريكا، اشتعلت الغيرة في نفوس البحارة وأخذوا يتهامسون: "ما الذي فعله كولمبس؟ كان بإمكاننا أن نصل إلى هناك لو أننا واصلنا الإبحار!" فطلب كولمبس من الملك أن يجمعه بهم، وفي الاجتماع حول طاولة واحدة أخرج كولمبس من جيبه بيضة طلب من كل قبطان إيقافها على رأسها.
دارت البيضة من يد بحار ليد بحار آخر لكنها كانت تسقط في كل مرة، وحين وصلت لكولمبس أخرج آلة مدببة من جيبه، نقر برأسها على مركز الطرف النحيل للبيضة، ثم وضعها فاستقرت واقفة.. صاح الجميع: "كلنا يا كولمبس نستطيع أن نفعل ذلك!" رد بدهاء: لكنكم لم تفعلوها! لاذوا بالصمت.. ودخل كولمبس ساحة الخلود.
أغرت البيضة المخيلة الشعبية فأسندت لها دوراً مستحيلاً، لتصديق ما لا يصدق، فجعلت الديك يبيض مرة في العمر، ومنه وُلد قولنا "مثل بيضة الديك"، بل لقد زعمت الأساطير الأوروبية أنه باض مرة بالفعل فنصبت له محاكم التفتيش في مدينة بال في سويسرا عام 1474م محكمة إذ اعتبرت فعلته تواطؤاً مع السحرة الذين كان يُشاع عنهم استخدامهم بيضته في إعداد أعمالهم الشريرة!
أما "الصعو" وهي طيور صغيرة فقد ذهب بيضه مثلاً فيُقال عن الشيء الذي لا يمكن إثباته أو البرهنة على وجوده: "مثل بيض الصعو يذكر ولا يشاف" وفي العراق يقال "مثل بيض اللقلق" حيث تهاجر طيور اللقلق هناك وتضع بيضها، لكن لا أحد يعبأ به رغم كثرته وكبر حجمه لأنه لا يؤكل فصار مضرب المثل على ما لا نفع منه.
تمثل بيضة طائر الوقواق رمزاً للانتهازية، لأن الوقواق يتحين خروج الطيور الأخرى من أعشاشها ثم يضع بيضته مع بيضها ليتولى الطائر الآخر احتضانها وإطعامها بعد الفقس ظاناً أنها من فراخه.
احتلت البيضة كذلك دورها الرمزي في الأعياد، فقدماء المصريين كانوا يلونون البيض في عيد شم النسيم واستمر هذا إلى اليوم، كما يفعل الغربيون الشيء نفسه في عيد "الايستر" إشارة إلى بعث الحياة من الجماد.
في تاريخنا الإسلامي لعبت البيضة دوراً مشهوداً في تضليلها لكفار قريش الذين كانوا يبحثون عن الرسول محمد ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ حيث كان مختبئاً مع أبي بكر الصديق ـــ رضي الله عنه ـــ في غار ثور خارج مكة وحين وصل بعضهم إلى الغار رأوا حمامتين وحشيتين ترقدان على البيض فاعتبروا ذلك دليلاً على أن الغار مهجور فتركوه.
وإذا أوغلنا في التاريخ بعيداً فيما يقرب من القرن الثامن قبل الميلاد كما حدّدها أبو التاريخ (هيرودوت) فقد حكمت مملكة آشور ملكة شهيرة، اسمها "سميراميس" هزمت اليونان والرومان والفُرس.. تصر الأسطورة على أن هذه الملكة العظيمة وُلدت من بيضة يمامة!
على نحو آخر استفزت البيضة الفنانين فأنت تجدها في لوحاتهم على مدى العصور ومن مختلف المدارس، كما يستبسل الخطاطون لكي يخطوا عليها بالإبرة والدبوس آيات من القرآن الكريم أو الحكم والأشعار!
وفوق هذا كله اتخذت البيضة رمزاً للعدالة، فبيضة ميزان القبان التي تتوسط ذراعيه.. لو مالت قليلاً إلى اليمين أو الشمال.. لكان معناه اختلال العدالة، لذلك يحتل الميزان ببيضته الشهيرة واجهات مباني المحاكم في العالم مرسوماً أو محفوراً فوق مداخلها!