رب ضارة نافعة
نحن شعب نحكم على النوايا برغم أننا لا نستطيع أن نشق عن صدور خلق الله لنعرف ما يضمرون. انتقد كثيرون قرار أمير منطقة مكة المكرمة بإزالة العشوائيات. بدأ كل واحد ينتقد القرار ويفلسفه حسب رؤيته وما يخصه من أهداف شخصية، ولكننا تعرفنا على مزايا القرار عندما بدأت مدينة جدة تتنفس، ولو أن الأمر تدريجي ويستغرق وقتاً.
آخرون انتقدوا حملة الجوازات ووزارة العمل التي استهدفت تنظيف سوق العمل وحماية الاقتصاد. تدريجياً بدأ السوق يستوعب القرار ورغم الصعوبات التي قد تظهر للمواطن، لكنها لا تقارن بالمزايا التي سنحصلها على المديين المتوسط والبعيد. سيمتص السوق الصدمة ويعيد تنظيم نفسه بناء على المستجدات.
جاءت حالات شغب مؤسفة من بعض العمالة المخالفة لنظام الإقامة في محافظة جدة لتفتح لنا نافذة على مشكلة أعمق من تغيير المهنة أو نقل الكفالة أو إلغاء الشهادات وتعديل المؤهلات التي يحملها الأجانب العاملون في المملكة. كشفت هذه الممارسات أنه يمكن أن يتحول إهمال المخالفة إلى خطر أمني يهدد الدولة والمواطن.
مجموعة كبيرة من النساء اللاتي كن يهربن من كفلائهن بمساعدة أشخاص قد يكونون قد حصلوا على الجنسية السعودية أو ما زالوا يحملون جنسية دولتهم، وتدعمهم مجموعة كبيرة من الرجال الذين لابد أنهم مخالفون لأنظمة الإقامة أيضاً، وقفوا في وجه رجال الأمن، بل اعتدوا عليهم بالحجارة وأشعلوا النيران في منطقة كان رجال الأمن يحاولون السيطرة عليها.
أجزم أن رجال الأمن لم يكونوا يعلمون بحجم ما سيواجهونه من شغب واعتداءات، وهذا يؤخذ عليهم صراحةً. كما أنه لم تكن هناك قوة داعمة للعسكريين الذين أصبحوا تحت وابل من الحجارة. الدليل أنه لم يكن لدى هؤلاء حتى قنابل دخانية أو أي وسائل ''مكافحة شغب''. كانت تلك فرصة كبيرة لتكوين نطاق أمني يمكن تضييقه حتى يقبض على كل المخالفين. لكن التوقعات كانت بريئة أكثر من اللازم.
عودة إلى بدايات تكوُّن ذلك الورم السرطاني الذي عرف عنه الجميع كمصدر للخادمات غير الشرعيات أو العاملات في المعامل، بل أسوأ من ذلك ممارسة سلوكيات محرمة شرعاً وقانوناً مثل ''البغاء''. نعم أقول عرف عنه الجميع، لأننا وإن لم نكن نعيش في المحافظة نفسها، سمعنا بتلك الحالات. أصبحت نسبة غير قليلة من الخادمات تهرب وتتجه نحو تلك المواقع. حتى أن أحد الزملاء ذكر لي أن خادمته وصلت المطار تسلمها، وأثناء عودته للمنزل طلبت منه أن يشتري لها ماء من البقالة، خرج الرجل من السيارة لدقائق، وعندما عاد لم يجد الخادمة.
لا يمكن أن ينكر أحد منا أنه سمع بقصص مثل هذه. بل إن الأدهى أن البعض كانوا يحصلون على خادماتهم من هذه المواقع. أصبح ممولو هذه العمليات هم المواطنون. تطور الموقف حتى ظن هؤلاء المخالفون أنهم على حق وأن لهم في البلد مثل ما لأهله. هذا من الأمور التي كتبت عنها أكثر من مرة وحذر منها كثيرون.
تستطيع أجهزة الدولة أن تعمل معاً لفترة محددة لمحاربة المخالفات، لكن الحل النهائي بيد المواطن. عندما بدأ انتشار بعض الأفارقة فجأة في مدن وقرى المنطقة الجنوبية، طالبنا بالتعامل الصارم معهم. وأهم من هذا طالبنا المواطن بالامتناع عن تشغيلهم والصرف على المتسولين منهم، لأن المواطن هو الوحيد الذي يستطيع أن يحل المشكلة بشكل جذري.
ماذا فعلنا كمواطنين لحل هذه المشكلة؟ استمر الكثيرون في تشغيل العمالة غير النظامية. استمر آخرون في التستر، وبقي هناك من يستشهدون بأدلة شرعية لا مكان لها في قضية التعامل مع المتسولين، ولا يزال انعدام المسؤولية يؤثر في حاضر ومستقبل الوطن، ولكن بصنع أيدينا.
لو فرضنا أن كل جنسية فعلت ما فعل هؤلاء فمن سيتأثر أكثر من غيره؟ إنه المواطن الذي لا يزال يساهم في تكوين هذه الثغرة الأمنية الخطيرة. ولهذا أعود للتأكيد أن هناك مكامن خطر مثل هذه موجودة، ولابد من التعامل معها قبل أن تتحول إلى براكين تنثر حممها على كامل أرض وأهل الوطن.
يجب أن يتم التعامل مع هؤلاء بالطريقة القانونية المناسبة وليس هناك ما يمنع من محاكمة كل المتورطين في ذلك المنظر المخزي مهما كانوا وأينما كان موقعهم. فمثل هذه السلوكيات لا تصدر إلا من أشخاص أمنوا العقوبة.
على أن علاج المشكلة ليس في إصلاح وضع هنا أو هناك، وإنما في عملية وقائية متكاملة تحمي الوطن من مشاكل قد تظهر في المستقبل. التعامل مع المشكلة اليوم أسهل من تأجيلها إلى الغد، لأن الخطر سيتضاعف مع تطور التقنية والتواصل بين مكونات مختلفة من هؤلاء.
القاعدة الذهبية هنا هي أن يكون كل شخص في موقع محدد ومعروف ومطابق لمعلوماته الموجودة لدى الجهات الأمنية. أن يعمل الشخص لدى كفيله ويمارس العمل الذي استقدم من أجله. أن يتم التعامل مع قضايا هروب الخادمات والمتاجرة بهن بقوة، وبالقدر نفسه يكون التعامل مع الأنواع الأخرى من العمالة. أن يتم الحد من استقدام عمالة الجنسيات التي تسببت في الأحداث، وتصنيف الجنسيات حسب خطرها الأمني الحالي، والتعامل معها بناء على التصنيف، كما هو حاصل في أغلب دول العالم. إضافة إلى ذلك أن نتخلص من نزعة التعاطف والرحمة التي يمكن أن تحول أشخاصا يحملون صفة زيارة أو لجوء إلى مقيمين دائمين.
يمكن كذلك البحث في تحديد سنوات العمل في المملكة التي لا يتجاوزها أي شخص. لكن الحل الأضمن هو في التزامنا نحن كمواطنين بالأنظمة، وهو ما يؤكد ضرورة أن يكون عقاب المخالفات ملائماً لخطرها، بما يجعل كل من يريد ارتكاب المخالفة يفكر كثيراً قبل أن يفعلها.