البصيرة.. «ويندوز» أم «ماك»؟
دخل محقق في الشرطة إلى لجنة المقابلة ليختبر ثلاثة من المتقدمين للخدمة ورفع أمامهم لوحة فيها صورة مجرم وقال للمتقدم الأول: هذه صورة مجرم هارب، تأمل فيه جيدا، كيف ستتعرف عليه فيما بعد إذا وجدته؟ قال المتقدم: بسيطة، حتما سأعرفه لأن لديه عينا واحدة! قال الضابط: يا لك من أحمق.. هذه صورة جانبية وهي الطريقة التي نأخذ بها صور المجرمين! وبالتالي، استبعد هذا المتقدم. ثم سأل الثاني: كيف تتعرف على هذا المجرم إذا هرب منك؟ قال: سهلة، سأعرفه مباشرة لأن له أذنا واحدة! قال المحقق بغيظ: أنت مثل صاحبك الأول، ألا ترى أن هذه صورة جانبية؟ ثم سأل الثالث السؤال نفسه: فقال: سأعرفه لأنه يرتدي العدسات اللاصقة. هنا حدق فيه المحقق بانبهار: وقال: ما شاء الله عليك، وكيف عرفت أنه يرتدي العدسات اللاصقة؟ قال: لأن له أذنا واحدة فلا يمكن أن يستعمل النظارة!
إنها حقيقة مؤلمة لطالما غفلنا عنها: هناك فرق كبير بين البصر والبصيرة، وبين الذكاء والحكمة، وبين قوة الملاحظة والتحليل المنطقي الصحيح. مهما بلغ التعليم والذكاء والتربية إذا عدم التفكير السليم والنظرة الصحيحة للحياة فإنه لا يجدي غالبا ولا يفيد كثيرا.
التفكير الصحيح مثل نظام التشغيل في الحاسب الآلي، يتدخل في كل شيء ويؤثر في كل البرامج الأخرى، فاللسان الفصيح القادر على توصيل المعلومة هو بمنزلة الشاشة الكبيرة العريضة الصافية، لا شك أنها تساعد على العرض وتوصل المحتوى بشكل أفضل، لكنها لا تجدي شيئا من غير نظام تشغيل جيد، و(الماوس) هو القدرة على التواصل وبناء العلاقات وهو من أهم الأجزاء، لكنه أيضا لا يجدي شيئا إذا كان نظام التشغيل ضعيفا، وكذلك الذاكرة وكل أجزاء وبرامج الجهاز الأخرى. فطريقة التفكير هذه مثل (الويندوز) أو (الماك)، لا تترك شيئا إلا أثرت فيه، وكلما ركزنا على تطويرها وتحسينها وتنميتها تحسن كل شيء آخر، بينما إذا كان فيها خلل أثرت في كل شيء آخر.
طريقة التفكير الصحيح يمكن أن نعبر عنها بالبصيرة. هي - في نظري - رؤية الموضوع من كل جوانبه بشكل معتدل تتداخل فيه المؤثرات النفسية والعقلية بشكل موزون يوصل إلى تصور صحيح. هو تصور يستفيد من الماضي ويفهم الواقع ويستشرف المستقبل. هي رؤية تتجنب عيوب التفكير الشهيرة مثل التعميم والتسطيح والتعقيد والأحادية وضيق الأفق والأنانية، وتتميز بالإيجابية والتفاؤل وتوقع الخير ولا تغرق في السلبية والتشاؤم. هذا التفكير الصحيح يحتاج إلى مناخ صحي من الحرية حتى ينمو ويزهر، يحتاج إلى الخيال والجرأة والتحدي، كما يحتاج في الوقت نفسه إلى تربية طويلة تقلم الزوايا الحادة في التفكير والتصور وتهذب الشاطح من الرؤى والأفكار. هي ملكة تحتاج إلى تدريب ورعاية واستثمار.
تتبع هذه البصيرة: الحكمة، وهي أقرب إلى التصرف العملي الناتج عن التصور الصحيح. إنها فعل أو قول أو موقف أو توقف، إنها تصرف ما، انفعال ما، يكون هو أيضا موزونا ومعتدلا مراعيا للمصالح والمفاسد ومتوافقا مع الظروف المحيطة. وهو في الوقت نفسه تصرف لا تنقصه الحماسة ولا يخلو من مخاطرة مدروسة محسوبة، فليس ثمة إنجاز كبير من دون شيء من المخاطرة.
هي إذن تفكير ببصيرة تتبعه استجابة بحكمة. معادلة وأي معادلة!
بقي أن أقول إن من أخفى عيوب التفكير وأدقها أن يركز الإنسان على نقد الآخرين وتتبع عيوبهم ونقائصهم بينما هو نفسه لا يرى عيوبه ولا ينظر في نفسه ولا يعمل شيئا. ذهب رجل مرة إلى طبيب الأذن يشكو من ثقل سمع زوجته، قال له الطبيب تعال من خلفها وكلمها من مسافات مختلفة وبلغني من على أي بعد تسمع. أتي الرجل إلى زوجته في المطبخ من خلفها على بعد خمسة أمتار وقال: ماذا طبخت لنا اليوم يا حبيبتي؟ فلم تجب، اقترب إلى متر تقريبا وأعاد السؤال فلم تجب! اقترب منها أكثر وسألها السؤال نفسه، فالتفتت إليه وقالت: حبيبي، رددت عليك ثلاث مرات! اليوم طابخين دجاج!
اللهم آتنا البصيرة والحكمة، ''ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا''.