شهر المراجعة الداخلية وختامه «نزاهة»

لعل القارئ غير المختص قد مل هذه السلسلة من المقالات التي ركزت على موضوع المراجعة الداخلية، ولكن لعله يجد لي بعض العذر إذا قرأ مقالي هذا، فالسبب الأول هو أن المعهد الدولي للمراجعين الداخليين قد خصص ''شهر مايو'' من كل عام لنشر ثقافة المراجعة الداخلية والدعوة لها ورفع وعي الجمهور بها، وكيف يمكن لهذه المهنة أن تضيف قيمة للمجتمع، وهو أيضا هدف استراتيجي للجمعية السعودية للمراجعين الداخليين، بل من أهم أغراضها التي أقرها مجلس الوزراء. السبب الثاني، هو أن هذا الشهر بالذات صادف عدة أحداث، أهمها طرح موضوع استقلال المراجع الداخلي للمناقشة تحت قبة مجلس الشورى، وهي أول مرة في المملكة تتم مناقشة هذا الموضوع عند هذا المستوى العالي من المجالس التشريعية. ولقد أشرت في مقالي السابق لهذه المناقشة ونتائجها، ولكن بقي لي أن أشير لما قامت به لجنة الشؤون الاقتصادية والطاقة في مجلس الشورى برئاسة أسامة قباني. فبالرغم من أن مجلس الوزراء قد أصدر اللائحة الموحدة لتنظيم وحدات المراجعة الداخلية في الجهات الحكومية وأشار فيها إلى الاستقلال، لكن لم يسبق لي أن سمعت عن مناقشة لاستقلال المراجعين (بشكل عام والداخليين بشكل خاص) في عالمنا العربي، بل والإسلامي عند هذا المستوى وبهذا العمق الكبير والاستفاضة في الطرح العلمي الرصين الذي قدمته لجنة الشؤون الاقتصادية والطاقة في المجلس، ولعله فاتني في المقال السابق ذكر ذلك بالتفصيل لأن ذلك المقال كان معنيا برد حجة من ضعّف استقلالية المراجع الداخلي أو قلل من أهميتها وتأثيرها بناء على أسس براجماتية غير واضحة.
وللحقيقة فقد دافعت لجنة الشؤون الاقتصادية والطاقة في مجلس الشورى عن استقلال المراجع الداخلي في الهيئات والمؤسسات العامة التي لديها مجالس إدارات، وفقا لأسس علمية مبنية على المعايير الدولية، سواء تلك التي صدرت عن المعهد الدولي للمراجعين الداخليين أو عن منظمة الانتوساي المسؤولة عن إصدار معايير وتوجيهات خاصة بالأجهزة الرقابية العامة في الدول الأعضاء، والمملكة عضو مهم فيها. لقد أجمعت كل هذه المصادر العلمية والمهنية على ضرورة استقلال المراجع الداخلي وأن يتم تعيينه وعزله والموافقة على خطته السنوية من قبل أعلى سلطة وهي مجلس الإدارة في الهيئات والمؤسسات التي مثل هذا المجلس أو نظيره، فإذا لم يوجد فإن أعلى سلطة هي الوزير، ولذلك جاءت اللائحة المنظمة للوحدات الحكومية بالإشارة إلى أعلى سلطة دون تسمية الوزير مباشرة. ومع ذلك لم تستطع اللجنة أن تقنع أعضاء مجلس الشورى الذين أصروا على أن يبقى المراجع الداخلي تحت إشراف الجهاز التنفيذي. ومع كل العزاء لهذه التوصية من مجلس الشورى، فإن الشكر لا بد أن يصل إلى أعضاء اللجنة ومن أيدها على جهودهم في رفع الوعي بأهمية المراجعة الداخلية، وأنها جزء لا يتجزأ من مشروع إصلاحي نهضوي شامل، فالمراجعة الداخلية ليست عملية رقابية بحتة، بل هي جزء مهم جدا في المؤسسات تسعى إلى إضافة قيمة من خلال مساعدة الإدارة على توجيه البوصلة نحو ما يحتاج إليه المجتمع، ونحو مصالحه الشاملة التي ترعاها وتحققها له المنظمة.
وبرغم أن مجلس الشورى قد أغلق الباب أمام إعادة مناقشة هذه القضية، إلا أن هذا الموضوع قد وصل إلى موقعه المناسب من الأهمية عند مناقشة هياكل الحوكمة وإدارة المخاطر في المؤسسات العامة، وبرغم حداثة تجربة المملكة في المراجعة الداخلية (إذا علمنا أن المعهد الدولي قد أنشئ عام 1941)، لكن ما شهدته المهنة من تطور في السنوات الأخيرة وما شهده مجلس الشورى من حوارات حولها يبشر بخير كبير، وبالتأكيد فإنه بمجرد نمو ثقافة المراجعة الداخلية ونمو الوعي بدورها وأنها ليست عينا للتجسس أو المراقبة وأنها إدارة لخلق المشاكل وتعطيل الأعمال، بل هي جزء من عملية إنتاج القيمة وفق ما يحتاج إليه المجتمع، فإن الجميع سوف يرى المراجع الداخلي كصديق مباشر له، سواء كان ذلك الشخص موظفا أو أحد مستخدمي الخدمات أو المدير أو حتى عضو مجلس إدارة أو وزير، وأنا كلي ثقة اليوم بأن مجلس الشورى بذاته سيطلب يوما ما أن يطلع على تقارير المراجع الداخلي لما لها من أهمية كبيرة وقيمة حقيقية عند اتخاذ القرارات.
في نظري، فإنه من الجميل أن تشهد المملكة كل هذا الحراك الساخن حول المراجعة الداخلية وبتوافق مع شهر مايو (شهر رفع الوعي بالمهنة في كل العالم)، ومع ما قامت به الجميعة السعودية للمراجعين الداخليين من ندوات خلال هذا الشهر، إضافة إلى ندوة ديوان المراقبة العامة، فإنه من المناسب جدا أن ينتهي كل هذا بمؤتمر كبير حول مهنة المراجعة الداخلية تنظمه الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وهذا بلا شك مسك الختام لنقاش ثري ومثمر حول مهنة رائعة كالمراجعة الداخلية، فاليوم تبدأ فعليات مؤتمر هيئة مكافحة الفساد عن المراجعة الداخلية بعنوان رائع جدا هو (دور المراجعة الداخلية في حماية النزاهة ومكافحة الفساد)، وهو عنوان يشير إلى حجم القيمة التي يمكن أن يضيفها أبناء هذه المهنة للوطن. ومع كل الأمنيات بنجاح عريض لأعمال هذا المؤتمر، وكل الثقة بأن القائمين عليه سوف يصلون بنا إلى توصيات مهمة، فإن توصية توضح ما أشكل في استقلال المراجع الداخلي في المؤسسات والهيئات العامة التي لها مجالس إدارة، ستكون محل تقدير وإشادة بلا شك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي