الجيل الذهبي .. وأبناء اليوم
تغلب على الأمم حالة النمطية في تركيبة العلاقات الاجتماعية، وتعيش هذه النمطية سنين طوال، ما لم يأت ما يغيرها جذرياً من المؤثرات الاقتصادية أو الاجتماعية أو العَقَدية. خلال التاريخ العربي بقيت الكثير من القيم وأساليب التعامل محفوظة، خصوصاً تلك التي شجعها الإسلام مثل البر بالوالدين ومسؤولية الرجل عن الأسرة مادياً والإحسان للفقراء والمساكين والمحافظة على علاقة متميزة مع الجار.
ظلت الأمة تعمل على تطبيق تلك التعليمات طوال القرون السابقة، ولا أذكر أنني قرأت عن شذوذٍ عنها إلا في حالات نادرة كان فيها السبب يرجع لعوامل خارجة عن سيطرة المجتمع، كفقدان العائل أو وقوعه ضحية لمرض أو إعاقة. هذه أمور منحت الأمة الإسلامية التفوق الذي شكل حضارتها الأولى عندما كان الجهاد ممنوعاً على من يعول والدين يحتاجان الرعاية، أو الفقير الذي لا يملك ما يمكن أن يساهم به في نصرة الأمة فيبكون ألا يجدوا ما ينفقون كما ورد في كتاب الله - عز وجل - في سورة التوبة '' وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ''. تلك التركيبة العظيمة التي جعلت الكل ينصهر في بوتقة المحبة والتواصل والتعاون لرفع شأن الدين الإسلامي، كانت جزءاً مهماً في سيادة المسلمين وقيادتهم العالم لقرون.
لا أعرف عصراً تبدلت فيه الأدوار بشكل درامي مثل عصرنا هذا. حيث تغيرت الأدوار ووقع البعض ضحايا للتغيير الاجتماعي السلبي. ظهر جيل يتحمل كل الأعباء، ويحرم من كل المزايا. هذا الجيل - خصوصاً في المملكة وبعض دول الخليج - حمل هموم الأوائل وأعباء الأخيرين نتيجة وقوعه في مرحلتين اقتصاديتين متنافرتين.
تحولت المملكة إلى واحة اقتصادية تتوافر فيها كل المتطلبات التي لم يكن أحد يجرؤ حتى على التفكير خلال فترة لا تتجاوز 50 عاماً. تسببت هذه الوفرة المالية في تغيير أنماط الحياة، وارتفع معدل الدخل بشكل كبير، وأصبح الجيل الذي عاش شظف عيش الفترة الأولى ملزماً برد ما حصل عليه بعد الطفرة لأبنائه.
الآباء الذين يقومون اليوم بالتربية والتعليم، وينفقون المال لشراء السيارات لأبنائهم، ويقومون بتزويج الأبناء والبنات، بل يقوم أغلبهم بتوفير المسكن المناسب لأبنائهم وبناتهم أحياناً. هم الأبناء أنفسهم الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية بر الوالدين واحتضانهم وتوفير السكن والعلاج لهم، وكلها واجبات لكنها وجهت باتجاه عنصر واحد من أبناء المجتمع هم ''الجيل الذهبي'' الذي يسكن هذه الأيام بين 45 و65 من العمر.
كان العرف في السابق يقضي بأن يربي الأب ابنه حتى يبلغ سناً يمكن أن تكون 12 وتصل إلى 18، ومن ثم يكون الابن مسؤولاً عن نفسه. وكانت البنت تربى حتى سن معينة تعمل بعدها في البيت أو الحقل لتستفيد الأسرة من قوتها ونشاطها سواء في الطبخ أو النظافة أو رعاية المواشي أو الاحتطاب وغيره. حتى أنه اشتهر لدى الكثير من المزارعين تأخير سن زواج البنت عن 15 ''مثلاً '' للاستفادة منها في خدمة أسرتها.
كانت الأعراف تقضي بأن يبدأ الابن في المساهمة في دخل الأسرة بمجرد خروجه من المدرسة، بل إنه في فترات الإجازات يعمل في الحقل أو في الرعي أو في البيع كما كان منتشراً في مدننا، عندما لم نكن نعرف الأجنبي أو نشاهده في طرقاتنا. بمجرد أن يتزوج الابن يكون قد التزم بحمل عبء أسرته بالكامل. الأب يبدأ بتقليص ساعات عمله حتى تصل إلى الصفر، والأم كذلك. يصل الحال إلى أن يتفرغ الأبوان لراحتهما وعلاقاتهما الاجتماعية، التي يدفع تكاليفها الأبناء. عاش الجيل الذهبي تلك المرحلة.
وما إن أكرم الله هذه الأرض بذلك المارد ''الأسود'' حتى تحولت الأمور. يستمر الأب، الذي يصل ابنه 25 و30، في الصرف عليه وعلى أسرته. يستمر الأب في العمل والصرف حتى بعد سن الـ 60، فإن لم يكن له ما يكفي من العوائد للصرف على الأسرة الكبيرة، اضطر للبحث عن عمل يضمن دخلاً يصرفه على راحة أبنائه. تستمر البنت في التحصيل العلمي ما دامت لم تتزوج، فإذا تزوجت سكنت هي وزوجها وأطفالها بيت أمها وأبيها - على الأقل أيام الخميس والجُمع. فتضيع هيبة الجد، ويُقَضُّ مضجعه، ويمضي وقته في الأسواق محاولاً أن يرضي كل هؤلاء الأشخاص. ندر في الزمان الماضي أن ترى شخصاً يعمل بعد الـ 60، لكنها اليوم حال منتشرة نظراً للالتزامات التي فرضها التغيير في القيم والمفاهيم.
السؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو: هل سيفعل أبناء اليوم ما فعله آباؤهم من تحمل أعباء لم يكن يحملها من سبقهم. أم أن هذه بداية تحول إلى تغيير شامل في الأعراف والتقاليد والسلوكيات. أظن الكثيرين يتفقون معي أن هذا الجيل لن يتكرر. وبناء عليه قد نرى انتشار ظواهر جديدة على المجتمع السعودي كتقاسم الإرث قبل أن يموت ''صاحب الحلال''، وبناء دور إيواء الكبار، ليتحول اهتمام الآباء إلى الأبناء فقط، حتى إذا وصلوا مرحلة تنتهي فيها مساهمتهم الاقتصادية أصبحوا عبئاً يتم التخلص منه إلى إحدى هذه الدور. أرجو أن أكون متشائماً!