قراءة في قصيدة ( تـضـاريـسُ الـمـشـاق )
قراءة في قصيدة (تـضـاريـسُ الـمـشـاق) .. للشاعر : عبدالقادر بن عبدالحي كمال
كان الصباح بهيا بصحبة أبي أيمن ، وكان الشعر شهيا ، والشجن عذبا ، واللغة تنثال من أكمام قريحته موشاة بالأصالة ، متوقدة بالإحساس العالي ، والدفق الشعري الزاخر .
كان هذا النص مفاجأة الجمعة السعيدة ، وأنا أتصبح به دون موعد مسبق ليأخذني في اتجاهاته العديدة ، ولأنه من الشعر السامي فقد توقفت عنده ؛ لقراءة مضامين هذا الخطاب الشعري الرائق الراقي .. وإني على ثقة بأنه أوسع من رؤيتي وأكبر من أدواتي القرائية ..
بدءا من العنوان تطالعك الشعرية في اجتلاب مفردة ( تضاريس ) من معجمها الجغرافي ، ونقلها من الطبيعة المحسوسة إلى حقل معنوي تمثل في ( المشاق ) التي تحمل في دلالاتها ما أهو أكبر من المتاعب والمصاعب ، فالمشقة هي أقصى درجات التعب لأنها تعبر عن القطع والكسر من ثقل الحمل كما في معانيها في لسان العرب .
اجتماع التضاريس بالمشاق يوحي بقسوة هذه المشاق وصعوبتها البالغة ، وجمع مفردة ( مشاق ) يزيد كثافة هذا المعنى . كل هذه الدلالات تحسها في العنوان فما بالك بالنص ، لنرى :
النص :
عـلّـمـونـي كـيـف أشْـدو
لِـــقُـــلـــوبٍ ومــــــآقـي .
وصِـفُـوأ لـي دفْـقـةَ الإحْـسـاسِ
فـي طـيـب الــعِـنــاقِ .
وحَـنـيـنَ الـمـوجِ يـهْـفـو
لِـلـشَّـواطـي فـي اشْـتِـيـاقِ .
عـشْـتُ فـي الأحْـلامِ عُـمْـري
أقْـبِـضُ الـرّيـحَ وحَـسْـبـي مـا أُلاقـي .
وكـأنّـي فـوقَ مـتْـنِ الـرّيـحِ
أو أثْـبـاجِ مــوجٍ
أو عـلـى سَـرْجِ الـبُـراقِ .
عُــدْتُ لِـلـواقِـعِ أحْـبـو
وعـلـى الـدّرْبِ أرَى حُـزْنَ الـرِّفـاقِ .
1
كـيـفَ لـي أُهْـديـكِ قـلـبـي
وعـلـى الـقـلـبِ تـضـاريـسَ الـمَـشـاقِ ؟ .
كـيـفَ لـي أنْ أشْـتَـهـي الـوصْـلَ
وفـي الـوصْـلِ احْـتِـراقـي ؟ .
كـيـفَ لـي أنْ أنْـظُـمَ الـنّـجْـمـاتِ عِـقْـدآ
لـكِ يـا مَـحْـبـوبـتـي قـبـل انْـعِـتـاقـي ؟ .
وأُغـنِّـي لـكِ مَـوَّالآ يُـحـاكـي
شَـهْـقـةُ الـمـوجِ وأنّـاتِ الـسّـواقـي .
عـجـبـآ كـيـفَ أُغـنّـي
وأنـا أشْـهَـدُ آيـاتِ الـفُـراقِ ؟ .
أتُـرانـي أسْـتـطـيـعُ الـبَـوْحَ شَـدْوآ
بـعْـدَ أنْ قَـطَّـعْـتِ أوْصـالَ الـتّـلاقـي ؟ .
القراءة :
عـلّـمـونـي كـيـف أشْـدو
لِـــقُـــلـــوبٍ ومــــــآقـي .
إن كان امرؤ القيس قد خاطب رفيقيه بـ ( قفا نبكِ ) ، فإن شاعرنا قد اختار ذات الصيغة لكن إلى ( الجمع ) ، وهذا الاستهلال المفاجئ يناسب تماما العنوان ، والشاعر قد أحجم عن الإفصاح عن مشاقه حتى بلغ به التعب ذروته في تضاريس مشاقه ، فانفجر لائذا بالشعر ، مخاطبا جمعا مضمرا في ثنايا التعبير ، سواء أكان هذا الجمع من واقعه ، أم من متخيله باستخدام فعل الأمر المضعّف ( علِّم ) ليبين بلوغه درجة الإعياء من شدة تعبه ، وكأنه كابد طويلا في بناء القصيدة ـ وهو القدير ـ لكن ليس كل تعبير يرضي الشاعر ، لأن الحالة الشعورية تسمو فوق اللغة أحيانا ، وتجعل المقول الشعري في نظر الشاعر أقل مما شعر به ، والأهم من هذا أن بعض الصدمات العاطفية تجعل الإنسان يبلت ويعجز عن الكلام ، ولا يستطيع التعبير .
طلب الشاعر من المخاطبين تعليمه ( كيفية ) الشدو، واستخدامه لمفردة الشدو ، يبين تأصل الشعر في ذاته ، وإيمانه بشاعريته ، وأنه غريدٌ شادٍ ، لكنه أمام هذه المشاق يريد الكيفية التي يعبر بها عن إحساسه ، وسرعان ما يشي السياق بمايريده الشادي ، يريد أن يشدو للآخرين ، ( لقلوب /ومآقي ) ، يريد أن يشعر به الآخرون الذين يتوجه إليهم بشدوه ، أن يحسوا بشدوه ، واختيار القلوب والمآقي فيه ذكاء شعري يمهد للحالة الشعرية ، فالشاعر لا يريد مخاطبة عقولٍ وإقناعها بحجة أو منطق ، الشاعر يبحث عن شاعرِين بحالته تتحرك قلوبهم ، ولا يؤمن بتحرك قلوبهم وشعورها إلا بدليل دامغ لن يكون بنبضها ، ولا بكلامها الذي ربما تزيفه الشفقة والمجاملة ، بل عطف بـ ( المآقي ) التي تترجم انفعالات القلب بدمعها المنحدر . والمآقي هي الجزء المخصص لسقوط الدمع من طرف العين من جهة الأنف ، وأكثر ما يستخدم هذا اللفظ للتدليل على الدمع ، أكثر من استخدام العين والمقلة والحدقة وغيرها .
وصِـفُـوأ لـي دفْـقـةَ الإحْـسـاسِ
فـي طـيـب الــعِـنــاقِ .
مازال شاعرنا أمام مخاطبيه ، يستحثهم ، ومايزال في سياق التعليم ، عندما عطف ( صفوا ) على ( علموني ) فالوصف شرح ، لكن الوصف ليس وصفا اعتياديا ، بل وصفا نفسيا عميقا لا يحسه إلا من تذوقه ، فهل المخاطبين شعراء ؟ ليصفوا للشاعر ( دفقة الإحساس ) هذا التركيب المذهل الذي يأخذ بمجامع الفكر في كل صوب ، فالتدفق بيان على قوة الاجتياح والحركة المحسوسة أقوى من استخدام ( سريان ) أو ( نزة ) أو ( انبجاس ) ، التدفق يدل على القوة والانبثاق، وهذا يبين ويفصح عن شوق الشاعر المكبوت لذلك العناق الطيب . ومن الناحية العلمية، يكون تعبير ( دفقة ) موفقا ؛لأن التدفق للسوائل دائما ، والعلوم الحديثة تبين أن اختلاجات الإنسان روحيا وجسديا تسببها هرمونات في الجسد تتحرك مع إحساسه أيا كان هذا الإحساس ، وليس
المقام مقام الخوض في هذا . لكن الشاعر يتكئ بوعي أو بلاوعي على هذه المسلمة العلمية السيكولوجية .
مفردة ( العناق ) لها مالها من الوقع على روح المشتاق ، فما بالك إذا كانت رفيقةً لمشتاق كابد ( تضاريس المشاق ) ؟
وحَـنـيـنَ الـمـوجِ يـهْـفـو
لِـلـشَّـواطـي فـي اشْـتِـيـاقِ .
مازال السياق التعليمي يسيطر ، وقد عطف الحنين على دفقة الإحساس التي عمل فيها الفعل ( صفوا ) ، فشاعرنا يطلب أن يصفوا له أيضا ( حنين الموج ) ومافي هذا التعبير من الشعرية التي أنسنت الموج ، وجعلته ( يهفو ) للشواطي في ( اشتياق ) ، فأي وصف للشوق أكثر من تزاحم هذه المفردات ( حنين / يهفو / اشتياق ) ، فالشاعر يرى نفسه موجة متعبة من تلاطمات البحر ، والسفر على صدره المتأرجح ، ولا ننسى مفردة ( التضاريس ) ، حتى يأخذها الحنين ، و( تهفو) تسرع لبلوغ الشاطئ وهي في غاية الشوق . وإذا كان شاعرنا تلك الموجة فمَن سيكون الشاطئ ؟ ، والشاطئ في ثقافتنا العربية أيقونة ( الأمن ) لأن ( البحر ) في ثقافتنا ـ أيضا ـ زاخر بالأخطار والعناء .
عـشْـتُ فـي الأحْـلامِ عُـمْـري
أقْـبِـضُ الـرّيـحَ وحَـسْـبـي مـا أُلاقـي .
بلغ شاعرنا غايته من مخاطبيه ، فالتفت بالخطاب إلى نفسه ، ليفصح الآن عن ( تضاريس المشاق ) ، ليخبرهم عن ذاته المتعبة ، وعمره الذي عاشه في ( الأحلام ) ، ولك أن تتخيل مسافرا في جبال السروات بتضاريسها الحادة يسير على الأحلام ، وموجة تتحرك من أقاصي البحار حلمها الشاطئ ، وليت الصورة تقف عند هذا ، بل يأخذنا الشاعر إلى صورة من المشاق المستحيلة ( أقبض الريح ) ، ودع لخيالك أن يبلغ ما يستطيعه في هذه الصورة الجامحة ، رجل يحاول القبض على الريح ، واختيار ( الريح ) بسرعتها وعتوها ، إيغال في تعميق المشهد ، والكناية عن المشقة والاستحالة ، وهذه الصورة لها ظيرتها في الشعر العربي عندما قال قيس بن الملوح مكنيا عن عجزه من بلوغ ليلى بالقابض على الماء : وإني من ليلى الغداة كقابض .... على الماء خانته فروج الأصابع .
ومن الكنايات أيضا : حديث " ...القابض على دينه كالقابض على الجمر ... " أما قبض الريح فلا أذكره إلا عنوانا لكتاب إبراهيم المازني الذي جمع فيه مقولات مهمة للرد على كتاب ( في الشعر الجاهلي ) لطه حسين ، ومقولات أخرى .
لاحظ كيف استطاع شاعرنا أن يصوغ هذا التعبير بلا وعي منه في تناص لما تختزنه ذاكرته ، وينساق في شعره سلسا معبرا عن الصورة التي أرادها ، ثم ينكسر متحسرا في غير إبداء للحسرة ( وحسبي ما ألاقي ) ، فماذا سيلاقي القابض على الريح ؟
وكـأنّـي فـوقَ مـتْـنِ الـرّيـحِ
أو أثْـبـاجِ مــوجٍ
أو عـلـى سَـرْجِ الـبُـراقِ .
وتبقى الريح العاتية عالقة بذهن الشاعر ، وكأنه يؤكد أنه لم يجنِ شيئا من قبضه عليها ، لتلتقطه الريح على متنها ، ( ومتن الريح ) تعبير رائج فيه استعارة وتجسيد للريح التي تقل شاعرنا ، ثم يعطف للحديث عن ( الموجة ) تلك التي كانت تمثله شوقا وحنينا ، وكأن الشاعر يراتب ويطوي النص على
بعضه صانعا للمفارقات بين الموجتين والريحين ، ويرى نفسه مرة فوق الريح ، أو فوق أثباج الموج ( الموج العظيم المندفع ) ثم ينتبه الشاعر لمفارقاته ، فيعطف بصورة لا نعرفها على الواقع ، بل نتخيلها بخيالاتنا لأنه لم يرها بشر غير محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( سرج البراق ) ليأخذنا الشاعر إلى
تخيل السرعة ، فسرعة الريح والموج ، لم يرها كافية ، فاستحضر أسرع كائن عرفه الوجود ( البراق ) الذي تفوق سرعته كل سرعة عرفها الإنسان . فإلى أين يتجه عبدالقادر كمال بهذه السرعة ؟!
عُــدْتُ لِـلـواقِـعِ أحْـبـو
وعـلـى الـدّرْبِ أرَى حُـزْنَ الـرِّفـاقِ .
هو المجيب ، فشاعرنا ليس مسافرا ، بل عائدا ، وكل النص يوحي بالعودة ، ( فالعناق / الموجة والشاطئ / الشوق / الحنين ) كلها تنبئ بالعودة ، لكن ليست عودة واحدة ، بل عودتان :
الأولى : عودة من تضاريس المشاق إلى حضن الحبيبة وهي محض أمانٍ وأحلام.
الثانية : عودة من الأحلام إلى الواقع .
ولنطوِ الفعل ( عدتُ ) إلى الفعل ( عشت ) وللنظر في شبههما ببعضهما لفظا وزمنا وحروفا ، وإضمار الفاعل فيهما.
وقبل أن نرى هذه العودة كيف كانت لنعد إلى قول الشاعر : ( وحسبي ما ألاقي ) ، فهل سيقرر هذه النتيجة أيضا هنا ، هل سيكون كالقابض على الريح ؟
يا إلهي ، مفارقة عجيبة لا يجيدها إلا الكبار شعرا وفكرا ، وهذا ما يسمى النضوج الشعري واكتمال التجربة ، الشاعر الذي ركب أسرع كائن عرفته البشرية ، وصل إلى الواقع ( يحبو ) لو قال أمشي أو أجري لبلغ المفارقة بين السرعة والبطء ، لكن مرامه أبعد من ذلك ، أبلغ من مفارقة ( السرعة / والبطء ) ، يريد أن يعيدنا للعنوان ( تضاريس المشاق ) ، المشقة التي بلغها في تسفاره في الأحلام ، ليعود منهكا لا يقوى على الانتصاب والمشي ، وقد فقد قوته في تلك التضاريس الحادة التي كابدها.
وليته عاد إلى الواقع ليجده مبهجا ، بل وجد على درب عودته ( حزن الرفاق ) هذا التعبير المشحون بالدلالات ، ياترى أهذا الحزن على القادم من التضاريس حبوا ، أم أنه واقع الحب الممهور بالحزن في عالمنا . يتركنا الشاعر لتلقي هذا الحزن كما يطيب لنا .
لعل الإعياء بلغ بشاعرنا ما بلغ ، ليؤثر بعد كل هذا التشظي أن يلتئم ، أن يجمع حطامه ، فيتوقف عند هذه الجزئية ويبدأ مقطعا آخر مغايرا في خاطبه :
1
كـيـفَ لـي أُهْـديـكِ قـلـبـي
وعـلـى الـقـلـبِ تـضـاريـسَ الـمَـشـاقِ ؟ .
يبدأ المقطع بسؤال يعيدنا لبداية النص ، فقد سأل هناك عن كيفية الشدو ، علموني ( كيف ) أشدو ؟ فيفتتح هذا المقطع أيضا بـ ( كيف ) ، ولعل الكيفية هل التي أرقت الشاعر واستنبتت أسئلته وكبدته المشاق كلها .
يخاطب الشاعر محبوبته الآن بحرقة المعاتب المحروم ، وفي تسآله يحذف ( أن ) من المصدر المؤول ، ويبقي على الفعل ( أهديك ) ، وكان باستطاعته صياغتها بالمصدر الصريح ( إهداء ) ، لكنه آثر إضمار أن لأنها مفهومة من السياق ، لكي يحافظ على سياق الخطاب ، فلو قال ( كيف لي إهداء قلبي ) ، فلن ندرك المخاطب ، سنظنه مازال إلى الجمع في المقطع الأول ، والشاعر حريص كل الحرص أن يوهمنا أنه يخاطب محبوبته ، ويسألها كيف يحق له أن يهديها قلبه ، وقلبه موغل تحت تضاريس المشاق فـ ( على ) تفيد الفوقية والاستعلاء للتضاريس على هذا القلب المسكين ، قلب شاعرنا صار بعيد المنال عنه وعن محبوبته ، يحول بينهما وبينه تضاريس المشاق الحادة ، هذه التضاريس التي اتخذها عنوانا للنص من شدة أفاعيلها به .
كـيـفَ لـي أنْ أشْـتَـهـي الـوصْـلَ
وفـي الـوصْـلِ احْـتِـراقـي ؟ .
وتستمر ( كيف ) في استغراب الشاعر عن اشتهائه الوصل وهو بعيد عن قلبه ، منفصل عن اشتهاءاته ، فالوصل يحتاج إلى قلب ، والتضاريس تحول بينهما ، ولكي يبلغ قلبه ، الذي يشتهي به الوصل ، سيكون احترق ، والاحتراق هذا كاللغز تماما ( فكيف سيكون الوصل مؤلما وهو ما ينشده ؟! ) لكن لا غرابة أن الشاعر مايزال في فمه ماء عن البوح بكل المكنون ، فيؤثر الاحتفاظ بسر الاحتراق هذا ، ويدع لنا رائحته فقط .
كـيـفَ لـي أنْ أنْـظُـمَ الـنّـجْـمـاتِ عِـقْـدآ
لـكِ يـا مَـحْـبـوبـتـي قـبـل انْـعِـتـاقـي ؟ .
وتجمح ( كيف ) في شعرية هذه المرة بعيدة ، تهجر الأرض وتتجه إلى السماء في البعيد جدا ، تبلغ النجمات ، لينظمها الشاعر عقدا لمحبوبته ، وفي تراثنا الشعبي يستخدم تعبير ( النجوم ) للتعبير عن البعد والاستحالة ، فيقولون ( أبعد عليك من النجوم ) لأنها أبعد نقطة يبلغها النظر .
يسألها الشاعر ، كيف له أن ينظم له النجمات عقدا قبل أن ينعتق ، وممّ ينعتق ؟ ، ولن أجازف بركوب مفردة ( عِقدا ) وأتتبع مكنوناتها السيميائية .
لعل الشاعر نزع إلى الرمز في هذه الجزئية أيضا كما نزع لها في الاحتراق من الوصل ، فالمصدر ( انعتاقي ) يضمر خلفه مايضمر ، لربما ينعتق من قيد أو عهد ، أو لربما يقصد الشاعر إلى التضاريس الحائلة بينه وبين قلبه ، وربما تلك التضاريس هي ذلك القيد المانع الحائل لبلوغ المراد ، يتركنا الشاعر نركب أمواج التأويلات والظنون لذلك الانعتاق ، الذي أراه ( بؤرة الحدث ) والكلمة المفتاحية للولوج إلى أعماق الذات الشاعرة ، لكن الشاعر يبقي الرمز ضبابيا لا يلجه موقن .
وأُغـنِّـي لـكِ مَـوَّالآ يُـحـاكـي
شَـهْـقـةُ الـمـوجِ وأنّـاتِ الـسّـواقـي .
ويعود الشاعر لبداية النص ( أشدو ) في ثوبها الجديد ( أغني ) ، وغناء الشعراء شعرهم ، لكنه هنا يورده أيضا معطوفا على ( كيف ) ، كيف الجامحة في هذا المقطع ، فالشاعر يقف أمام المحبوبة متسائلا بحرقة وألم ، بوده أن يغني لها موالا ، وما أعذب الموال الحجازي ، لكن الشاعر يأخذنا إلى موالات الطبيعة التي انغمس فيها بكل معاني المدرسة الرومانسية ، باستخدام استعارة ( شهقة الموج ) وصوته وهو يتلاطم على شفة الشاطئ ، كأنه الشهيق ، واستخدام ( الشهيق هنا ) يعبر عن حرقة الشاعر واختناقه ورغبته في أخذ أنفاسه ليزفرها أسئلة وأسئلة ، ثم استعارة ( أنات السواقي ) ، ولك أن تبحر وراء هذه الاستعارة بجمالها ، وانطباق صوت الساقية على الأنين ، فحتى الطبيعة التي رام الشاعر التعبير بها كساها حلل الحزن ، بين ( شهقة / وأنات ) ، ولفظ ( الموال ) غالبا ما يتشح بالشجن الحزين ، فسيكون غناء الشاعر حزينا جدا كالحزن الذي خلعه على الطبيعة التي وزع عليها ذاته .
عـجـبـآ كـيـفَ أُغـنّـي
وأنـا أشْـهَـدُ آيـاتِ الـفُـراقِ ؟ .
يا الله ، هاهو الشاعر يلقي مرساته في شاطئ السكون الحزين ، منكسرا ، متهدج الصوت ، مغموما بالعبرة في تعجبه (كيف أغني) ؟ ، لو أتى بالسؤال مباشرا بكيف دون ( عجبا ) لما أدى التعبير غايته المؤثرة جدا في المتلقي ، فتأمل المشهد ، والشاعر يلح محترقا في استفهاماته السابقة ويرفع صوته بها ، ثم يصمت برهة ، ويطرق ، وينظر متعجبا ( عجبا كيف أغني ) ؟
كيف أغني ، وكل علامات الفراق أشهدها ، أرى كل شيء أمامي : مشهد الفراق الحي ، لا يراه الشاعر ، بل يشهده ، واستخدام ( أشهد ) أبلغ من ( أرى ) ، فأشهد تدل على الوقوف الفعلي الواضح الذي يرى كل شيء بتفاصيله الدقيقة ، أما ( أرى ) فربما رؤية عادية ، أو لا يعلم الراحل بالرائي الذي يراقبه ، لكن الشاعر يؤكد أنه شاهد أمين ، ومحبوبته تعلم أنه يشاهد كل شيء ويعايشه بقلبه وجوارحه . فهل يستطيع الغناء ؟ أم هناك غناء آخر ستجهش به المآقي ولسان حاله يقول :
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها .... عن الحلم بعد الجهل أسبلتا معا .
أتُـرانـي أسْـتـطـيـعُ الـبَـوْحَ شَـدْوآ
بـعْـدَ أنْ قَـطَّـعْـتِ أوْصـالَ الـتّـلاقـي ؟ .
تغيب الآن ( كيف ) لتحل مكانها الهمزة ( أتراني ) ، والهمزة لا تحتمل إجابة مفلسفة بل تكفيها ( نعم / أو لا ) ، والشاعر يعلن عجزه عن البوح ( شدوا ) فلن يبوح إلا بالدموع ، بعدما قطعت محبوبته أوصال التلاقي ، ولنتأمل الفعل المضعف ( قطّع ) المعبر عن قوة التقطيع وحرص هذه المحبوبة على تقطيع حبال الوصل ، وذكاء الشاعر في أن يناسب بين كثرة التقطيع ومفردة ( أوصال ) ، فكأننا نرى حركة التقطيع ، ونرى قطع حبل التلاقي الذي يستحال ترميمه ، ليجعلنا هذا نعود إلى ( الاحتراق / الانعتاق ) الرامز ، وهذه المحبوبة توغل في قطيعة الشاعر الذي لم يستطع الانعتاق من أمر ما ، باعد بينهما .
وبالعودة إلى طلبه في مفتتح النص ( علموني كيف أشدو ) طوى الشاعر خاتمته إلى ذلك المفتتح بسؤاله ( أستطيع البوح شدوا ) ، ليناسب بين أسباب طلبه تعلم الشدو مع إيمانه بمقدرته الشعرية ، وبين سبب عجزه عن البوح شدوا ، بعد فراق محبوبته التي تركته غارقا في بحار الدمع .
وعودة الشاعر تفصح عن أن حديثه في المقطع الثاني لمحبوبته كان إيهاما لنا ، فهو في الحقيقة مازال يتحدث إلى الجمع الذين خاطبهم بـ ( علموني ) و ( صفوا لي ) ، لأن النص كله حالة شعورية واحدة ، أكدتها عودته ( للشدو ) ؛ لأنه ما بلت وعجز عن الشدو إلا بعدما تقطعت بينه وبين محبوبته السبل ، فكأن خطابه لها جزءا من الحكاية في خطابه العام الذي افتتح به النص .
المدرسة الرومانسية :
بالنظر إلى النص لغة ومفردات وإحساسا وكل مكوناته التعبيرية ، فإن الناظر فيه للوهلة الأولى لا يعجز عن عزوه إلى المدرسة الرومانسية في الأدب ، فهاهي صبغة رواد تلك المدرسة في أدبنا السعودي ، طاهر زمخشري وحسن القرشي والأمير عبدالله الفيصل ـ رحمهم الله ـ ظاهرة بجلالها وجمالها وشاعرنا عبدالقادر حسبما قرأت من نصوصه ينتمي إلى هذه المدرسة ويعتبر من أعلامها .
لغة النص :
لغة عذبة جميلة كعادة المدرسة الرومانسية لا تنزع إلى غريب الألفاظ ولا إلى التعقيد اللغوي أو الرمزي ، بل تزاوج بين المفردات لإيصال الحس الشعري بأيسر الطرق وبأبهى الصور المستمدة من الطبيعة المحيطة بالشاعر ، لغة مشحونة بالدلالات العاطفية حسبما يقتضيه المقام ، وقد برع الشاعر بتجربته الشعرية الواسعة في اختيار مفرداته بدقة متناهية .
من مميزات النص :
فوق ماذكرته عن اللغة وجماليات التعبير، برع الشاعر في إحكام النص وربطه في وحدة عضوية ونسيج شعري متحد ، فنجد عودات الشاعر بالنص إلى بعضه البعض مقويات لترابطه ووحدته ، ورغم أن النص مكون من مقطعين إلا أن الشاعر لم يجعلنا نشعر بذلك لو لم يفصلهما شكلا ويضع ترقيما بينهما .
كذلك بروز ثنائية التشظي والالتئام ، فالشاعر بدأ متشظيا في التضاريس الحادة حائرا ، ثم التأم عندما عاد ووقف أمام محبوبته ، ليختم النص متشظيا ، موزعا على أفواه الأسئلة .
ونزعات الشاعر إلى الرمز قليلة ، فلم ألحظ إلا محاولتين لإخفاء المراد خلف الماوراء حتى ، وربما كانت نزعة ذاتية ، تفرضها اعتبارات شخصية ، تقف القراءة عن تأولاتها حتى لا تخرج القراءة إلى أبعد مما يليق بها .
ختاما :
كانت هذه قراءة تذوقية انطباعية ، بما تيسر لي من أدوات ذوقية قراءاتية ، آمل أنني وفقت في الغوص والفوز بدرر هذا النص المتخم بالشجن والشعر ، وأفدت القارئ بما استطعته .