«جواسيس» ولكن أبرياء

قاتل الله المدعو ''ربيع عربي''، كان العقلاء يملأون الوطن، خطواتهم محسوبة، ردة فعلهم معقولة، واختلافهم ضرورة، فلما هبت على المنطقة رياح خماسين اقتلعت الأخضر واليابس، توالت الصدمات، واتسعت دائرة الانتهازية السياسية، وغدا الخطاب الجمعي مسيطراً على مَن يفترض أنهم نُخب اجتماعية، فلغة الشارع تسود، ولغة المنطق تغيب، حتى بلغنا حداً لم تعد معه هناك إمكانية للتفريق بين مَن يقود ومَن يُقاد. محاولة اختراق المجتمع من جهات استخباراتية أمر طبيعي ومتوقع، والسعوديون ليسوا جميعاً ملائكة، فإرهابيو تنظيم القاعدة لا يمثلونهم، ومثيرو الشغب في القطيف لا يمثلونهم، وكذلك مَن قُبض عليهم في خلية التجسس لا يمثلون إلا أنفسهم، ومع هذا وبعد أقل من 24 ساعة من إعلان شبكة التجسس صدر بيان من علماء ومثقفي القطيف والأحساء يشككون في الإعلان ويطعنون في مصداقيته، ويبرئون المقبوض عليهم، فقط لأنهم ''مواطنون شيعة معروفون باستقامتهم''، معتبرين هذا ''الادعاء مرفوضا ومريبا!''. البيان المؤامراتي حسم القضية مبكراً، مؤكداً وجود مؤامرة تُحاك ضد جزء من الوطن، بل الأخطر هو توجيه اتهام صريح ومباشر بأن الحكومة تلعب على سياسة ورقة الافتراق المذهبي، وفي هذا توسيع للفجوة القائمة بين أطياف المجتمع، فبدلاً من التأكيد على أن مَن قبض عليهم لا يمثلون أي تيار أو طائفة، وأن الأمر برمته متروك للقضاء، جاء البيان مغايراً بالدفاع عنهم حميَّة للطائفة، وهو ما يعني أنه كلما اتخذت خطوة لا توافق هوى فئة ما كانت التهمة جاهزة بأنها اضطهاد للهروب من مطالب الإصلاح، وفي هذا تزوير كبير ومزايدة على كل الإصلاحيين في البلاد. وهنا يأتي السؤال: طالما كانت النية مبيتة، كما يزعم البيان، فلماذا لم تكن هذه فرصة للعب على سياسة ''ورقة الافتراق المذهبي''، خاصة أن الادعاء العام ساق لهم من التهم ما يمكن أن تتضاعف معه العقوبة عشرات المرات؟ بل لماذا لم تفعلها الحكومة عندما كانت الفرصة مواتية، وذلك في أعقاب اختراق الشبكة الإلكترونية لشركة أرامكو؟ ألم تكن الفرصة متاحة عندما انتشرت شائعات بأن من قام بهذا العمل هم من الطائفة الشيعية؟ فكان الرد سريعاً من الشركة أولاً ثم من المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية بأنه ''لم يثبت تورط أيّ من موظفي الشركة''، كذلك ألم يكن من الأسهل توجيه الاتهامات بالتجسس لمجموعة من مثيري الشغب في القطيف، الذين حرقوا وطالبوا بإسقاط النظام، بدلاً من طبيب في مستشفى كبير أو مسؤول مصرفي أو أكاديمي؟ مع الأسف، الانتهازية السياسية غدت طابعاً يذهلنا ويفاجئنا يوماً بعد الآخر، ومَن وقَّعوا على البيان، سواء بعلم أو من دونه، يسهمون في تأجيج الخلافات المذهبية بدفاعهم المستميت عن المتهمين بالتجسس، ليس لأنهم سعوديون شيعة، بل لأنهم شيعة سعوديون!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي