ماذا لو قرروا المغادرة؟!
المتابع للتحولات الاجتماعية خلال الخمسين عاما الأخيرة سيجد أنها كانت عميقة ووصلت لكل مفاصل المجتمع دون استثناء، ورغم أنني من أشد المناصرين لنظرية حتمية التغير الاجتماعي، إلا أنني أعتبرها حتمية لها سياقها الطبيعي ومسيرتها الاعتيادية، حيث تتميز بالبطء الذي لا يمكن ملاحظته إلا من جانب المختصين والدارسين في هذا المجال، لكن ما حدث لدينا خلال العقود الخمسة الأخيرة كان واضحا ولا تخطئه العين. هذه التغيرات بطبيعة الحال كان منها الإيجابي والمفيد، الذي ساهم في تطور وتقدم المجتمع ككل، ومنها ما كان في بعض جوانبه سلبيات يعتبرها بعض علماء العلوم الاجتماعية طبيعية؛ لأن هذا ما يحدث في كل حراك مجتمعي. أتذكر في هذا السياق كلمة الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، عندما قال: ''الشيء الوحيد الثابت هو التغيير المستمر''.
تعددت الدراسات والبحوث العلمية التي حاولت رصد مثل هذه التغيرات من السلوكيات الفردية إلى السلوك والتفكير الجماعي، وخرجت بكثير من الظواهر الدخيلة على المجتمع السعودي سواء في الملبس أو المأكل أو حتى في التعامل والتفكير والاهتمامات والأولويات اليومية. وإن كان ليس هذا مجال مراجعتها والتدقيق في ملامحها ومتى بدأت؟ وكيف انتشرت؟ ولماذا؟ وغيرها من التساؤلات العلمية في هذا الجانب، إلا أن هنا ظاهرة جديرة بالمناقشة والبحث، وهي وجود الخدم والعاملين في خدمة الأسر في منازلنا، هي ظاهرة اجتماعية بكل تأكيد، يجب البحث فيها ومعرفة جوانبها المختلفة وأثرها على أفراد مجتمعنا من التربية إلى الدافعية نحو العمل والوظيفة. فجميعنا يعلم أنه لا يكاد يخلو منزل أو بيت لأي أسرة سعودية من وجود عاملة منزلية، بل إن هذه الظاهرة وصلت إلى بعض المقيمين لدينا الذين جاؤوا لكسب قوتهم، وبالتالي التغرب عن بلادهم من أجل العمل، تجد أنهم أيضا بات لديهم عاملة منزلية، المدهش في هذا السياق والغريب في الأمر أنك تشاهد زوجا وزوجة حديثي الزواج، وقد تم استقدام عاملة منزلية لخدمتهما، والزوجة لا تعمل بمعنى لا وظيفة لها، ورغم هذا تم استقدام عاملة منزلية تقوم بخدمتهما. أنا لست ممن يرى أن وظيفة المرأة هي المطبخ والطهي والتنظيف، ودوما أقول إن هذه وظيفة الرجل والمرأة، فلا زوجة عاملة منزلية ولا الزوج هو عامل، إنما يوجد تعاون، فغسل الأطباق والملابس لم تكن في أي يوم من وظائف المرأة، لكنها ألصقت بها وفق اعتبارات اجتماعية وتقاليد لا مجال لمناقشتها الآن، العاملة المنزلية للوهلة الأولى وكأنها جاءت لتفك هذا القيد الذي ربط بخناق المرأة ولتعيد لها بعضا من الحق في أن تجد من يقوم بخدمتها وينظف المطبخ ويغسل الملابس، لتكون تماما كالزوج، فالعقد هو عقد نكاح، وليس عقد عاملة منزلية. الذي أريد أن أصل إليه أنه بطريقة لا شعورية ومع التنامي الزمني أخذت العاملة المنزلية مساحة كبيرة من اهتمامات الأسر السعودية، وباتت الحاجة إليها كالماء والطعام، ولا فكاك.. ووجدت المرأة أن العاملة المنزلية خير من يقوم بفك هذا القيد الذي أحكم حول رقبتها وصارت بسببه زوجة وخادمة في المنزل. المشكلة أن هذا القيد الذي تحررت بموجبه المرأة ربط أعناق آخرين من أسرتها مثل الأطفال وأثر التربية وجود من يقوم بخدمتهم عليهم، لدرجة أن طفلا لم يتجاوز الرابعة من العمر يطلب من العاملة أن تحضر له كوب ماء، وباتت العاملة المنزلية هي من يوقظ الأطفال للذهاب إلى مدارسهم ويجهز إفطارهم وغيرها من الوظائف التي عادة يقوم بها كل من الرجل والمرأة في الأسرة. لكن هل يمكن أن نشاهد اليوم الذي تستغني الأسر عن وجود العاملة؟ بطبيعة الحال الإجابة ليست بالنفي إنما بالمستحيل، لكن ماذا عن عوامل خارجية مثلما حدث في موضوع الاستقدام من إندونيسيا. بل ماذا لو افترضنا جدلا أن العمالة من خدم وسائقين قرروا ترك السعودية والعودة إلى بلادهم؟ ما حجم الفراغ والضرر الذي سيلحق بالأسرة وبالتفاعلات والعلاقات بينها؟ وهل نحن جاهزون لمثل هذه المفاجآت على مستوى الأسرة. أعتقد لا بد أن يكون لدينا خطة بديلة تعيد الأسرة إلى مرحلة التكيف ثم التوافق مع الكثير من المتغيرات ومنها الاستعانة بالعمالة في الأمور الشخصية.