باكستان وإيران وبينهما الخليج

في ضوء ما تواتر من أنباء حول وجود تقارب إيراني ـــ باكستاني عسكري وسياسي واقتصادي متنام حول النفط، وأفغانستان، والأوضاع في المنطقة، وما قيل عن تدخل الرياض للجم إسلام أباد عن المضي قدما في هذا السبيل المحفوف بالمخاطر، فكان أن تأجلت زيارة مقررة للرئيس الباكستاني إلى طهران في أواخر العام الماضي للتوقيع على مشروع لمد خط أنابيب الغاز بين إيران وباكستان. كاتبني أحد القراء متسائلا عما يدعو باكستان للقيام بذلك في هذه الفترة المضطربة من عمر المنطقة، رغم كل ما يربطها بدول الخليج العربية - ولا سيما السعودية - من علاقات ودية ومصالح استراتيجية، ناهيك عما قدمته لها هذه الدول على مدى عقود طويلة من مساعدات ومنح وهبات ونفوط مجانية لم تحصل عليها أي دولة أخرى. ويتساءل القارئ عما إذا كان للأمر علاقة بتنامي العلاقات الخليجية ـــ الهندية في السنوات الأخيرة من بعد عقود من الهواجس والشكوك المتبادلة خلال حقبة الحرب الباردة، أو صلة بتردي العلاقات ما بين إسلام أباد وواشنطون على خلفية اتهام الثانية لاستخبارات الأولى بالوقوف خلف أعمال الإرهاب في أفغانستان؟
إن الحقيقة الماثلة للعيان التي يعرفها كل متابع لسياسات باكستان الخارجية وعلاقاتها مع الأقطاب الدولية والإقليمية هي أن هذه السياسات متذبذبة لا تستقر على حال، كتذبذب الأنظمة الباكستانية المتعاقبة ما بين العسكري والمدني، والشكلين الرئاسي والبرلماني. بل يمكن القول إن تذبذبها وافتقادها بوصلة واضحة ليس سوى انعكاس لتخبط أنظمتها التي فشلت في تحقيق بناء اقتصاد متين، أو نهضة صناعية جبارة، أو اكتفاء ذاتي يغنيها عن الاعتماد على المعونات الخارجية.
لقد كانت الآمال عريضة يوم أن ولدت باكستان ككيان إسلامي مستقل في عام 1947 بأنها ستقدم نموذجا للآخرين في الديمقراطية والاستقرار والتنمية والنهضة العلمية. لكن سرعان ما تبخرت تلك الآمال تحت وطأة الانقلابات العسكرية المتتالية، وفساد صناع القرار، والتمييز الجهوي والقبلي والإثني، وغياب الرؤى التنموية الواضحة. هذا ناهيك عن إنفاق بعض الأنظمة التي حكمت باكستان موارد البلاد الضعيفة أصلا في التسلح. كما لا ننسى في هذا السياق عجرفة بعض قادة باكستان العسكريين وساستها المدنيين حيال مطالب وتظلمات مواطني البلاد من البنغال، التي أفضت في النهاية إلى انسلاخ جناحها الشرقي في كيان مستقل تحت اسم ''بنجلادش'' ليصبح الكيان الذي أسسه ''القائد الأعظم'' محمد علي جناح أصغر حجما وأقل موارد، بل عاجزا عن الادعاء بأنه الممثل الوحيد لأغلبية مسلمي شبه القارة الهندية، كما لا ننسى الدور السيئ لجهاز المخابرات الباكستاني في التدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول المجاورة (أفغانستان والهند تحديدا)، واحتضان وتدريب جماعاتها المتمردة لاستخدامها وقت الحاجة.
ولأن باكستان عجزت عن صنع اقتصاد يوفر لشعبها الحد الأدنى من الرفاهية ويغنيها عن التسول، وديمقراطية راسخة قوية يُحاسب فيها صانع القرار على أخطائه وسياساته، فإن سياساتها الخارجية وعلاقاتها الدولية قامت منذ البداية على استراتيجية الحيلولة دون سقوطها كدولة أو تصنيفها كدولة فاشلة، عبر الاقتيات على المعونات الاقتصادية والعسكرية الأجنبية من أي مصدر. ولتحقيق هذا الهدف، فإنها لجأت إلى وسائل أشبه ما تكون بالمتواليات ومنها:
أولا: تضخيم فكرة التهديد الهندي لها، من أجل الظهور أمام دول العالمين العربي والإسلامي كحمل مسلم وديع لا يملك ما يواجه به الذئب الهندي الكافر المفترس.
ثانيا: استغلال ظروف الحرب الباردة للانخراط في الأحلاف العسكرية الغربية المضادة للمعسكر الشرقي كحلفي بغداد والسيتو في الخمسينيات والستينيات.
ثالثا: تحويل أراضيها المتاخمة لأفغانستان إلى جبهة ضد السوفيات، ومأوى للمجاهدين الأفغان وأنصارهم من العرب والقوى المتشددة من جميع أصقاع العالم، دونما اكتراث بتداعيات مثل هذا العمل على نسيجها الاجتماعي وأمنها الداخلي، الأمر الذي أثمر انتشار ثقافة الكلاشنكوف في باكستان، وأفرز مختلف أشكال التطرف الديني وصولا إلى ظهور حركة طالبان وتنظيم القاعدة.
ثالثا: تقديم نفسها أمام الدول العربية المحافظة ـــ ولا سيما دول الخليج العربية ـــ كقوة يمكن الاعتماد عليها في الحماية من المدين القومي واليساري أولا، وتهديدات الخميني وصدام لاحقا. ودليلنا هو ما أبداه الجنرال ضياء الحق وخلفاؤه في تصريحات ومقابلات منشورة من جاهزية قواتهم للعب دور شرطي الخليج (بمقابل طبعا).
رابعا: استغلال هوس بعض الأنظمة العربية الراديكالية ـــ مثل نظام معمر القذافي في ليبيا ـــ بامتلاك القدرات النووية في جني المزيد من المساعدات المالية تحت يافطة صنع القنبلة الإسلامية القادرة على تحرير القدس وفلسطين، وذلك على نحو ما فعله ''ذو الفقار علي بوتو'' ابتداء. وبذلك فإن صانع القرار الباكستاني كان، في الوقت الذي يضع فيه قدما عند الأنظمة العربية المحافظة، يضع القدم الأخرى عند خصومها. وقد قام ضياء الحق بذلك أيضا حينما غازل نظام الخميني (المتناقض مع نظامه) من أجل النفط ودعم الجهاد ضد السوفيات في الوقت الذي كان يتلقى فيه المساعدات السخية من دول مجلس التعاون.
رابعا: تقدُم الصفوف في الحرب الدولية على الإرهاب بقيادة واشنطون (بمجرد إعلانها)، بما فيها إرهاب حركة طالبان التي هي من أسستها ودعمتها لأغراضها الخاصة.
خامسا: المراهنة على العداء الصيني - الهندي من أجل كسب بكين إلى جانبها سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وقد بدأت هذه المراهنة مبكرا، أثناء احتدام الخلاف الأيديولوجي ما بين حلفاء باكستان في الغرب والشرق الأوسط من جهة والصين الماوية من جهة أخرى. ومن المهم هنا الإشارة إلى موقف باكستاني آخر ينم عن الازدواجية الفاضحة ألا وهو قبول حكومة الماريشال أيوب خان في 1963، بتخطيط من وزير الخارجية آنذاك ''ذو الفقار بوتو'' بالتنازل عن مساحات شاسعة من أراضي كشمير الباكستانية للصين مقابل موافقة الأخيرة على عملية ترسيم الحدود البينية ومساندة باكستان عسكريا في صراعها مع الهند. وتعتبر الصين العامل الوحيد الثابت في سياسات باكستان الخارجية حتى الآن، بدليل موافقة إسلام أباد على منحها قواعد عسكرية، وفرصا استثمارية في قطاع تكرير النفط وشحنه في إقليم بلوتشستان المطل على بحر العرب.
والحال أن دولة بهكذا سياسات متلونة، ومستعدة لدق كل الأبواب من أجل مصالح آنية ضيقة، وتفعل في الليل الدامس ما تحاربه في النهار، لا يُستبعَد أن تتجاوز تحفظات حلفائها التقليديين في المنطقة فيما يخص تعاونها النفطي والعسكري مع النظام الإيراني المشاغب، فتمضي قدما في عقد صفقات الغاز مع طهران وصفقات أخرى خاصة بمنح الأخيرة قواعد عسكرية على الساحل الباكستاني المطل على بحر عــُمان، طبقا لما أعلنه أخيرا قائد البحرية الإيراني ''حبيب الله سياري''.
إن على دول الخليج العربية مجتمعة أن تحزم أمرها وتغير قواعد وأساليب التعاون مع الآخر بحسب مواقفه من الأنظمة والجماعات التي تهدد أمنها ووجودها واستقرارها الداخلي، سواء أكان هذا الآخر قوة إقليمية كباكستان، أو قوة عالمية كالصين، أو قوة عظمى كالولايات المتحدة وبريطانيا، أو بلدا عربيا خاضعا للنفوذ الإيراني كالعراق ولبنان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي