إلى أين تتجه صناعة تكرير النفط العالمية؟

تشهد صناعة تكرير النفط ازدهارًا في بعض الدول الآسيوية والشرق أوسطية، وانحسارًا في الدول الغربية واليابان. وأصبح الموقف كالمدّ والجزر بين هذه الدول. فبينما تعاني صناعة التكرير في العالم الغربي مصاعب شتى نتيجة الكساد الاقتصادي والضغوط البيئية، وارتفاع أسعار النفط واعتماد بعض البدائل المتجددة مثل الوقود الحيوي وزيادة فاعلية محركات العربات؛ ما يؤدي إلى تقليص استهلاكها للوقود. مما أدى إلى إغلاق بعض المصافي في أمريكا الشمالية واليابان وأوروبا الغربية، وأبسط مثال على ذلك ما تعانيه شركة بتروبلس التي تمتلك ثمانية مصافٍ في أوروبا من مصاعب مالية تهدد بإفلاسها. واليابان أمام خيارات صعبة، إما الاستثمار في تحديث مصافيها وتركيب تقنيات جديدة لمواءمة الحاجة العالمية، وإما إغلاق بعضها. وتقدر الوكالة العالمية للطاقة (IEA) إغلاق نحو مليونَي برميل من القدرة التكريرية في العالم الغربي للأسباب المذكورة، إضافة إلى عدم قدرتها على منافسة الدول الآسيوية والخليجية. وعلى الجانب الآخر، تزدهر هذه الصناعة في كل من الصين والهند ودول الخليج العربي، إلى درجة أصبحت من المصادر الرئيسة للدخل القومي.
وبحسب الأوبك، وصل الطلب العالمي على النفط في عام 2011 إلى نحو 88 مليون برميل يوميًا، ويتوقع أن يزيد بنحو مليون برميل يوميًا سنويًا ليصل الطلب العالمي بحلول 2020 إلى نحو 97 مليون برميل يوميًا. وهذا يعني أن قدرة العالم التكريرية يجب أن تزيد بنحو تسعة ملايين برميل يوميًا في تلك الفترة الزمنية لتتعامل مع هذه الزيادة. وستتركز معظم هذه الزيادة في الطلب على النفط في دول العالم الثالث، وبالتالي ستكون معظم توسعات الصناعة في هذه الدول. إذ إنه من المتوقع أن تستحوذ الصين على الحصة الكبرى من هذه التوسعة بقدرة تكرير إضافية تصل إلى ثلاثة ملايين برميل يوميًا، والهند والسعودية والبرازيل إلى 1.2 مليون برميل لكل منها، والكويت 0.8 مليون برميل (تشمل 200 ألف برميل لمصفاة في فيتنام لتكرير النفط الكويتي) والإمارات 0.4 مليون برميل يوميًا.
تعتبر الصين أكبر مستهلك للطاقة في العالم وثاني أكبر مستورد للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وتستهلك الصين يوميًا نحو عشرة ملايين برميل تنتج منها 45 في المائة وتستورد الباقي لتأمين 20 في المائة من احتياجاتها للطاقة، حيث لا يزال الفحم الحجري يؤمّن أكثر من نصف الطلب المحلي. ويبقى نمو طلب الصين على النفط من أكثر العوامل المؤثرة في أسعار النفط العالمية.
وفي حين بلغت قدرة الصين التكريرية 4.4 مليون برميل يوميًا في عام 2000، وكانت الرابعة عالميًا بعد الولايات المتحدة واليابان وروسيا، شهدت خلال الفترة 2000-2010 زيادة مدهشة في قدرتها التكريرية معززة بالنمو الاقتصادي الهائل في هذه الفترة، فوصلت قدرتها التكريرية في 2010 إلى تسعة ملايين برميل يوميًا لتحتل المرتبة الثانية عالميًا. ومعظم هذه القدرة تستهلك محليًا، خاصة مع نمو الصين الاقتصادي وزيادة أعداد السيارات ومعدل الرفاهية. وستضيف الصين نحو ثلاثة ملايين برميل بحول 2017 (ثلث النمو العالمي في صناعة التكرير) لكي تدخل عالم تصدير المنتجات البترولية بعد تلبية متطلباتها المحلية أولاً؛ لذلك لا بد من تشييد مزيد من المصافي، مستفيدة من موقعها الجغرافي ومن رخص الأيدي العاملة، ومن وفرة الاستثمارات الخارجية في هذا المجال؛ فمعظم شركات النفط الكبرى مثل إكسون موبيل وشيفرون وشل وأرامكو السعودية لها شراكات تكريرية قائمة في الصين. قامت الصين حاليًا بتصدير نحو 600 ألف برميل يوميًا من المشتقات البترولية، وبالتأكيد ستتضاعف هذه الكمية إذا أضافت الصين ثلاثة ملايين برميل إلى قدرتها التكرير بحلول 2017.
أما الهند، فتبقى من الدول القلائل التي استفادت بحق من صناعة تكرير النفط. ولا بد من التنبيه إلى وجود عوامل عدة ساعدت على ازدهار هذه الصناعة داخل الهند، منها موقعها الاستراتيجي بين بلدان المنبع والدول المستهلكة ووفرة الأيدي العاملة الرخيصة، وعدم وجود قيود بيئية صارمة مثل تلك الموجودة في الدول الغربية. وتتمتع الهند حاليًا بفائض للمشتقات البترولية يقدر بنحو 1.4 مليون برميل يوميًا تذهب للأسواق العالمية لتكون مصدرًا مهمًا، وأحد روافد الاقتصاد الهندي. وتمتلك الهند حاليًا 22 مصفاة ذات طاقة تكريرية تقدر بأكثر من أربعة ملايين برميل يوميًا، وستضيف مليوني برميل يوميًا لطاقتها التكريرية بحلول 2017م لتصل الطاقة الإجمالية لتلك الفترة إلى أكثر من ستة ملايين برميل يوميًا، ولتصبح في المرتبة الثالثة عالميًا بعد الولايات المتحدة والصين. ويبقى أن نشير هنا إلى أن قيمة صادرات الهند من المشتقات البترولية كانت بحدود 1.7 مليار دولار في عام 2001، واستمرت بالنمو والازدهار إلى أن وصلت إلى نحو 58 مليار دولار في عام 2012، وهي مرشحة إلى الارتفاع إلى نحو 90 مليار دولار في عام 2016.
ولتحليل الحالة الهندية نجد أن الهند استوردت في عام 2012 نفطًا خامًا يقدر بأربعة ملايين برميل يوميًا بسعر 100 دولار للبرميل لتصبح قيمة واردات الهند من الخام تقدر بنحو 146 مليار دولار. وبذلك استطاعت الهند أن تخفف من عبء حاجتها الشديدة إلى النفط بصناعة التكرير وتصديرها، حيث نمت قيمة تصدير المشتقات البترولية من إجمالي تصدير المنتجات الهندية من 4 في المائة في عام 2001 إلى نحو 20 في المائة في عام 2012. ولا بد من الإشارة إلى أن استهلاك الهند المحلي لا يتعدى ثلاثة ملايين برميل يوميًا بكل سكانها الذين قاربوا المليار، وبزيادة سنوية تقدر بنحو 200 ألف برميل يوميًا. ولقد طورت الهند صناعتها التكريرية لتلائم المتطلبات الغربية من تخفيض محتوى المركبات الكبريتية والنيتروجينية الضارة بصحة الإنسان وبيئته، وأيضًا عدلت مصافيها لإنتاج مزيد من الديزل؛ نظرًا إلى ارتفاع الطلب العالمي عليه مقابل الجازولين. إذا استطاعت الهند أن تقتنص فرصة صناعة التكرير في ظل عزوف وتردد غربي ووجود موقع جغرافي غاية في الروعة ما بين المنبع والمصب. وتجدر الإشارة إلى أن شركات التكرير الهندية تربح نحو ثمانية دولارات من تكرير كل برميل خام وتحويله إلى مشتقات متنوعة. وهذا الربح يتغير باستمرار بتغير الفرق ما بين أسعار النفط العالمية وأسعار المشتقات البترولية.
لكي يتم إنشاء صناعة تكرير منافسة لا بد من التخطيط السليم ومتابعة المتغيرات العالمية بدقة، فمثلاً الصرامة العالمية بخصوص كميات الكبريت بالمشتقات أمر لا يمكن التغاضي عنه؛ فالديزل والجازولين يجب أن يخلُوا من المركبات الكبريتية، وأما زيت الوقود المستعمل كوقود للسفن وللناقلات البحرية العملاقة فستعمل التشريعات الجديدة لزيت الوقود في 2020 على السماح بـ0.5 في المائة فقط للمركبات الكبريتية؛ ما يشكل تحديًا كبيرًا لصناعة التكرير؛ إذ إن إزالة الكبريت من هذه المشتقات تعتبر عملية معقدة وباهظة التكاليف. ولا يغيب عن البال أن صناعة التكرير هي صناعة ديناميكية وتتغير بتغير طبيعة الاستهلاك العالمي فمثلاً يحتاج العالم في عام 2020 إلى 31.5 مليون برميل ديزل مقابل 23.5 مليون برميل يوميًا من الجازولين؛ ما يعني أن التصدير يحتاج إلى الديزل النظيف، والاستهلاك المحلي الخليجي يتغذى على الجازولين؛ لذلك التوازن بين التصدير والاستهلاك يساعد هذه الصناعة على الخروج إلى العالمية.
وقد يتساءل البعض ''هل من خطر على ربحية صناعة التكرير في ظل التغيرات التي يشهدها عالم الطاقة، وخاصة فيما يتعلق بالغاز الصخري والطفرة الهائلة التي تشهدها أمريكا؟''. يجمع معظم الخبراء على أن هذه الطفرة من الغاز لن تؤثر في متطلبات الوقود السائل من المصافي؛ لأن استخدام هذا الغاز وقودًا في وسائل النقل المختلفة يحتاج إلى وقت وذي تكلفة عالية تجعله من الصعب منافسة النفط الخام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي