مصر العظيمة والخليج الماجن.. قراءة عقلية (1 من 2)
(1)
سأبدأ من مكان مختلف، سأبدأ من حيث لا أسبغ صفات العظمة المتعالية على مصر الوقورة ''صانها الله، وأعز أهلها''. سأبدأ من حيث كون المصريين، كما هم سائر الناس في كل زمان ومكان - كما هو حكم الله الماضي في خلقه ''إن أكرمكم عند الله أتقاكم''. وأن لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى - سأبدأ من حيث سقوط - الجغرافيا - ومكان الميلاد، كعلة للتفاضل على الخلق، أو بينهم، سأبدأ من حيث معالجة ''تسطيح عقولنا''، سأمانع تزييف واقع الشيء وطبيعته! لن أخطب بصوت جهوري حتى .. أزيف واقعا، وتاريخا، وحضارة، ودين الله، ورسالة إبراهيم الخليل الذي سمانا مسلمين، ولن أقرر من البدء أن مصر هي أعظم شعوب الأرض، ولا هي أعظم حضارة في التاريخ، ولا أن كل ينابيع الأرض تأتي منها في الفكر والعلم والثقافة.
ربما لكوني لا أبحث عن تقدير يستند إلى تزوير التاريخ، وتزييف تاريخ البشرية في رقيها الحضاري وتعدد المكان وتبدل الزمان.
والإنسان هو الإنسان، بين البيئة المنتجة والعوامل المساعدة، وبين الاستلاب والاستبداد والتخلف والقهر.
وهذا المنطق يجعل مصر في عرض شعوب العالم وليست في طولها أو أسمى منها .. ودون أن نجعل الخروج عن تعظيم مصر على باقي الشعوب العربية ''هلوكوست'' الثقافة العربية، كما ينافقها كثيرون في هذا البعد عن الموضوعية الوجودية والتاريخية.
إن هاجر .. وخطوات الرجاء منها، وعمق اليقين في قلبها، ليس ذاك لكونها ''مصرية''! ولا لكونها نزلت من بطن أم مصرية، بل لكونها ''أمة الله'' الصادقة اليقين، الطاهرة النفس، العفيفة الجسد، الصادقة الثبات بحب ربها بعد سقوط ظاهر الحرمان، والطرد، والإبعاد.
وما هذا يستوجب فخرا لمصر - اليوم - في شيء، ولا صلة منطقية بينهما، ولا يجوز أن نجامل المصريين، من خلال تزييف - دين الله - وتبديل ثابت: أن الجزاء والثواب من الله العلي الحكيم فرديا، أو أن نمنح الأنبياء ''جنسية البلاد المعاصرة''. فيصبح بهذا النبي محمد - صلوات الله وسلامه عليه - سعوديا، وموسى مصريا، وسليمان فلسطينيا، كما أصبحت هاجر مصرية .. بالقصد الذي نطالب المصريين اليوم بالفخر به، بعد التاريخ الضارب في التقادم البعيد والقاصي، وكأنه له فضيلة تخصه وتميزه. فلو كانت هاجر حبشية.. أو يمنية هل سينقص هذا السعي بين الصفا والمروة، وستنزل مكانتها عند ربها؟! لو قال لنا أحد ما - لكم الفخر.. أن النبي سعوديا، هل نعتبر هذا تشريفا، أم نعتبره استخفافا بعقولنا، وبرسالة الله، ومعاني النبوة والرسالة، وبنبينا وعظيم منزلته - صلوات الله وسلامه عليه؟
تعظيم الذات بهذه الصورة يثير الشفقة، أكثر من الإجلال أو الاحترام، وأن - الإخوان المسلمين - يتعين عليهم اليوم، أن يتجهوا نحو الواقعية السياسية، في معالجة أزمات مصر، وتأزيم الخارج للداخل المصري، وأن يبصروا المخاطر، وسبل النجاة منها، وأن يتقبل العقل الجمعي فيهم، أن ممارسة السياسة والحكم تختلف كليا عن الحديث عنهما عن بعد. وأن حامل القرار يعجز عنه في أكثر المرات، وأن السياسة البصيرة فيها ليست بالمتاحة لكل أحد، كما أن المزالق منها لا يراها من لم يقع فيها، ويصبح ضحية لها في أكثر من مرة. هي كالثقة فيمن ليس جديرا بها، لا تعرف حقيقته إلا بعد أن تكون ضحية له.
إن نفخ الريش للمصريين، الذين يروق لهم ذلك بالخطب الحماسية، وتعظيم الذات أكثر مما هي عليه، من خلال منح هاجر جواز سفر مصريا، وقصائد الشعر والخطابة، لا تغير فسادا، ولا تغرس شجرة. ولا تحل أزمة، أو تبدل واقعا. بات من العسير على أهله أن يتقبلوا ذواتهم فيه أو يفهموها، وهي على هذا القدر الهائل من التناقض والكراهية والتصادم.
كما لن يشفع لمصر وشعبها الكريم، كل صفات العظمة التاريخية التي نستحضرها بنظام القص واللصق المتكرر لشريط متصل بتاريخ البشرية من آلاف السنين. سيما ونحن نتحدث عن أمة فيها بقية من روح ''أنا ربكم الأعلى''.
في الواقع الذي، لا يروق لكثيرين سماعه، أن كثيرين من العرب، لا تزال تضيق بهم الحرية، لكونهم يحولونها إلى فوضى هادمة هدامة، لكونهم ألفوا الانضباط المفروض بالاستبداد. فإن غاب أو ارتفع دون تدرج، غابت القدرة على السيطرة لغياب السلوك المنضبط، ولغياب الوعي، والثقافة المدنية، والسلوك المدني المتحضر. ولغلبة الجهل، ولكون المستبدين يتحولون إلى مستبدين بدورهم، وأن المقهور يقهر من هو دونه، ومن هو أضعف منه.
وإن كثيرا من الشعوب العربية المطالبة بالحرية، لا تتحمل التعددية على مستوى التعبير، ولا على مستوى التباين في الرؤية، ولا على مستوى التعددية السياسية في الميول والاتجاه.
وإن هبوط الشتيمة في كل حوار، ومع كل تقابل في الرأي، وبكل هذا القدر الهابط من اللفظ والمعنى، لهو دليل على انعدام التأهيل النفسي والعقلي والمجتمعي لكثير من الشعوب العربية، للحرية التي يطالبون بها، لكونها تأتي خارجة من مقدمتها الطبيعية والتأهيل المجتمعي للتعايش مع مسؤوليتها الكبرى.
وللحديث تتمة في الأسبوع المقبل - إن شاء الله تعالى.