فرنسا وحشرجة الموت

كان إعلان وكالة موديز في تشرين الثاني (نوفمبر) عن خفض تصنيفها لديون فرنسا السيادية بدرجة واحدة من (أأأ) سبباً في دفع أحد المدونين إلى السخرية من ميل وكالات التصنيف إما إلى تقييم الأمور بشكل خاطئ تماماً أو الانتباه فجأة إلى أزمة كانت جلية واضحة كالشمس. يمزح المدون قائلا: ''إذا كان هذا الاعتراف من قِبَل إحدى وكالات التصنيف بأن فرنسا تعاني مشاكل بمثابة مثال للفشل من النوع الأول، فمن المؤكد أن التعافي قد بدأ بالفعل؛ أما إذا كان مثالاً للفشل من النوع الثاني فهذا يعني أن البلاد تواجه حسابات عصيبة''.
تزعم حكومة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أنها انتبهت إلى التهديد. وفي مقابلة أجريت معه أخيراً، شَبَّه وزير المالية بيير موسكوفيتشي التدابير التي يجري اتخاذها للحد من أعباء الديون المستحقة على البلاد واستعادة القدرة التنافسية ''بالثورة التي أحدثها كوبرنيكوس.. لأن هذه الخيارات لم تكن واضحة بالنسبة للحكومة الفرنسية أو بالنسبة لحكومة يسار الوسط''.
وكدليل على هذه الواقعية الجديدة أعلنت الحكومة بصخب استجابتها لتلك المجوعة من التوصيات المتعلقة بالسياسات التي قدمها فريق من الخبراء تحت قيادة المدير التنفيذي لويس جالوا قبل أسبوعين من خفض تصنيف فرنسا. وتدور الاستجابة حول خفض الضرائب على المرتبات، الذي سيقابله خفض الإنفاق وزيادة ضريبة القيمة المضافة.
في الفترة التي سبقت خفض التصنيف، قال أحد المحللين في وكالة موديز: إن القرار سيستند إلى حد كبير على ما إذا كانت الحكومة قد استجابت للدعوة في تقرير جالوا إلى ''تعريض الاقتصاد الفرنسي لصدمة القدرة التنافسية''. وبالتالي فإن خفض التصنيف يوحي بأن وكالة موديز رأت أن استجابة الحكومة لم تكن كافية.
ولا يكمن الفارق الرئيسي بين النموذج الفرنسي الفاشل والنهج الاسكندنافي الأكثر نجاحاً في ''نواتج'' الرفاهة الاجتماعية (فلا تزال الخدمات العامة في فرنسا، مثل نظام الرعاية الصحية، من بين الأفضل في العالم على الإطلاق)، بل في طريقة تمويلها. إذ يقوم الإنفاق الاجتماعي في الدول الاسكندنافية على فهم مفاده أن المواطنين لا بد أن يدفعوا ضرائب أعلى في مقابل الخدمات العامة.
ولكن رغم أن الإنفاق العام في فرنسا ــ الذي بلغ نحو 56 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2011 ــ لا يقل عن المستويات في الدول الاسكندنافية، بل وربما يزيد عليها، فإن الأسر الفرنسية تدفع معدلات ضريبية أقل على الاستهلاك والدخل الشخصي. ويتم سد الفجوة من خلال مزيج من الإنفاق بالاستدانة وزيادة الضرائب على العمالة.
وبفعل الإفراط في الاقتراض الحكومي وزيادة الضرائب على المرتبات (الضمان الاجتماعي المدفوع من قِبَل أصحاب العمل) استمر وقوع المواطنين تحت وهم مفاده أنهم يحصلون على شيء بلا مقابل، في حين أدى هذا أيضاً إلى إدامة الاعتقاد الخاطئ لدى الحكومات المتعاقبة بأن فرض الضرائب على الشركات وسيلة غير مؤلمة لتمويل الرفاهة الاجتماعية والخدمات العامة. ولكن بات من الواضح على نحو متزايد أن هذا النهج تسبب في تقويض الموارد المالية العامة والقدرة التنافسية ــ وأن الأسر هي التي تتحمل فاتورة الحساب. (الواقع أن البطالة المرتفعة المزمنة تعني أن هذه كانت حال الأسر لسنوات). والآن يواجه المواطنون ضرائب أعلى وتخفيضات للخدمات العامة.
ويعترض منتقدو النظام الفرنسي على الإحصاءات الخاصة بتكاليف العمل في إطار جهودهم الرامية إلى إثبات أن فرنسا لا تختلف كثيراً عن شركائها التجاريين الرئيسيين في أوروبا. ولكن حقائق العقد الماضي ــ بما في ذلك الخسارة الكبيرة للحصة في سوق التصدير وانحدار ميزان الحساب الجاري بنسبة 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي ــ ترسم صورة مختلفة.
وبعيداً عن الإشارة إلى التحول المؤيد لقطاع الأعمال، فإن استجابة حكومة هولاند لتقرير جالوا تعكس عقلية التدخل الدائم من قِبَل النخبة الفرنسية. فبدلاً من تنفيذ تخفيضات عميقة ودائمة في الضرائب على المرتبات التي تتحملها الشركات، فإن الحكومة ستعطي الشركات 20 مليار يورو (26 مليار دولار أمريكي) في هيئة ائتمان على ضريبة الدخل على مدى العامين المقبلين. ومع مطالبة الشركات بتطبيق الخصم النقدي على الاستثمار وخلق فرص العمل، فقد صورت الحكومة هذه التدابير بوصفها خفضاً للضرائب على العمالة ومن شأنه أن يعزز تشغيل العمالة. ولكن الإعفاء الضريبي المؤقت لا يكفي لتغيير الحوافز.
وعلى هذا فإن حشرجة الموت الصادرة عن النموذج الاقتصادي الفرنسي لا تزال مسموعة. ولا يبقى إلا أن ننتظر لنرى كيف قد تكون النهاية. وسواء جاءت النهاية في هيئة إضراب لرأس المال من قِبَل حاملي السندات الأجانب، أو في هيئة إضرابات عمالية داخلية واضطرابات اجتماعية وسياسية أوسع نطاقا، فإن زعماء فرنسا غير مهيئين على الإطلاق لاستقبال ما لا مفر منه.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي