الثقافة.. مجد الجامعة العربية المنبوذ

عمر مديد جاوز سبعة عقود هو عمر الجامعة العربية، تعاقب عليها أمناء لهم في الأساس وزنهم النوعي ثقافياً وسياسياً هم: (عبد الرحمن عزام، عبد الخالق حسونة، محمود رياض، الشاذلي القليبي، عصمت عبد المجيد، عمرو موسى ثم الأمين الحالي نبيل العربي). لكن هذا العمر المديد للجامعة استهلكته السياسة أولا وأخيرا، ليس لأن الجامعة كانت مؤثرة فاعلة في هنا الحقل وإنما لأن عملها استنفد في أداء دور ساعي البريد بين هذا الزعيم أو ذاك لتذليل العقبات البروتوكولية الدبلوماسية لعقد مؤتمر أو لقاء ليبقى عملها في النهاية منسق الجلسات وكاتب المحاضر ولا شيء أكثر.
ومع أنه ما من إنجاز يذكر في الحقل السياسي فإنه يمكن قول الشيء نفسه عن الحقل الاقتصادي فلا مشاريع اقتصادية عربية مميزة ولا سوق عربية مشتركة ولا برامج إقليمية، وليس سوى بعض العلاقات الاقتصادية والتجارية البينية.. ما يعني أن الجامعة العربية لم تكن لها كذلك فاعلية اقتصادية لمصلحة العرب فيما بينهم ولا لمصالحهم كتكتل إقليمي في المنظمات الدولية.
كان بالإمكان تعويض هذه اللافاعلية للجامعة العربية، في السياسة والاقتصاد بالفاعلية الثقافية، خصوصا وقد بدأت الجامعة في بواكير عهدها مشاريع ثقافية جمعت بين خدمة التراث والتعريب والمصطلح إلى ترجمة بعض الذخائر الأجنبية غير أن تلك البدايات تسلل إليها الإهمال وعوملت باللااكتراث تحت هيمنة العامل السياسي وأوقعت الجامعة نفسها في مصيدة الخلاف والاختلاف السياسي بين الدول الأعضاء.. وبدلا من أن تستثمر إمكاناتها في الحقل الثقافي وتركز عليه أهملته.. ما أصاب البدايات الثقافية بتصحر، لا يقطع مساحته الجرداء إلا اجتماعات مفاجئة تحت نوبة نخوة عابرة لمسؤولي الثقافة أو التربية العرب، لعل أبرزها المشاركة مع منظمة اليونسكو في إعداد وإخراج "الخطة الشاملة للثقافة العربية".
لعل السؤال الذي لم يوجهه أمناء الجامعة العربية لأنفسهم هو: لماذا لا تستثمر الجامعة العربية وزنها ودورها وإمكاناتها في صناعة ثقافة عربية وتبني موقف تنويري؟ كما فعل الموسوعيون في القرن الـ 18 في فرنسا في ثورة الضخ المعرفي التي أدارت ناصية الوعي هناك وبزغت عنه شمس العقل والحضارة، أو ما فعلته مكتبة الإسكندرية في العصر الهيلنستي في مصر بل ما أحدثته (دار الحكمة) التي أنشأها الخليفة العباسي المأمون في بغداد في القرن الثاني الهجري.. ومواقع أخرى من العالم أثبتت الثقافة فيها أنها الإكسير السحري لعلاج الأمراض العضال في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وخميرة اليقظة والتقدم.
إن عدم التفات أمناء الجامعة العربية للثقافة أو انعدام شهيتهم للعمل من أجلها مثير للحيرة حقا، مع ظني أنهم كانوا يستشعرون في الغالب قدراً من فراغ المعنى واللاجدوى من وجودهم، باستباحتهم بمزاجية العلاقات الفوقية للدبلوماسية العربية المعقدة!
لكن.. هل كان سبب عدم التفات أمناء الجامعة العربية للثقافة ناجما فقط عن هيمنة الحقل السياسي أم هو بالأساس ناجم عن عدم إيمانهم بدور الثقافة وبعدم قدرتها على إدخال العرب إلى التاريخ؟ .. أكاد أجزم بأن الأخير هو الأقرب، رغم مدائحهم اللفظية العالية الصوت للثقافة في اللقاءات والمناسبات، بل إن الحيرة تصبح أشد حين نعرف أن فيهم مَن هم كتاب ومثقفون أصلا!
لقد كان من اليسير على الجامعة العربية - مهما كانت درجة التحسس من الثقافة - أن تصدر كتبا وموسوعات ودوائر معارف ومعاجم وعلوما وتربية وترجمات وبرامج وجوائز ... إلخ، بعيدا عن الشبهات الأيديولوجية والشعارات، ولم يكن هذا ليحتاج سوى دعم مادي ما كان سيواجه ممانعة تذكر، وربما أن الحماس له هو الأكثر احتمالا.. غير أن الجامعة أهدرت الفرصة تلو الفرصة لقيادة التنوير العربي وصناعة ثقافة عربية لأن القناعة بدور الثقافة لم تكن متوافرة وتخلت عن هذا المجد الثقافي والوحيد الذي كان بإمكانها فعله .. فبقي مجداً منبوذاً تتخسف من تحته الطرقات وتصفق في وجهه الأبواب!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي