عدوى العرب للأوروبيين.. ترحيل الملفات
«ينبغي علينا العودة إلى الوراء، لكي نعلم الأوروبيين كيف يحبون أوروبا»
جان كلود جانكير رئيس وزراء لوكسمبورج السابق
لو كان لدى وكالات التصنيف العالمية الكبرى، أقسام متخصصة في تقييم المؤتمرات والقمم، لأسرعت على الفور بتخفيض مستوى جودة القمة الأوروبية الأخيرة التي انعقدت في بروكسل. خصوصاً مع الإصلاح الكبير الذي دخل على وكالات التصنيف، وحسن أداءها، بعد أن وصلت سمعتها إلى الحضيض، في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، عندما اكتشف العالم أن هذه الوكالات منحت الفاشلين درجات عالية لم يحلموا بها، في حين يغمز البعض من قناة ''التصنيف العالي مقابل الأجر العالي''. أو ''ادفع فصلاً تنجح صفاً''.
على كل حال، تستحق القمة الأوروبية المشار إليها، تصنيفاً منخفضاً للغاية. ومن الواضح أن هذه القمة بالذات أصيبت بالعدوى من القمم العربية، ولا يبدو (حتى اللحظة) أن القمم الأوروبية المقبلة ستكون أفضل حالا من الأخيرة. فالخلافات مستمرة، والرؤى مبعثرة، والهموم متعاظمة، وحتى ''الردح'' منتشر في أجواء القارة. وما يقوله القادة في العلن مختلف تماماً عما يقولونه في السر. والابتسامات التي يوزعونها هنا وهناك، وراءها عبوث هائل. القادة الأوروبيون يلتقطون الصور ويظهرون جنباً إلى جنب، ولكنهم في الواقع ليسوا مع بعضهم البعض. ولهذا السبب ''استعاروا'' السلوكيات العربية في قمتهم. ماذا فعلوا؟ رحلوا الملفات المحورية إلى القمة المقبلة. وهذه ''صناعة'' عربية بامتياز. فهناك ملفات عربية ما زالت تُرحل إلى القمم الدورية منذ إنشاء الجامعة العربية نفسها.
ترحيل موازنة الاتحاد الأوروبي للفترة بين العامين 2014 و2020 إلى القمة المقبلة له، قدم بالفعل الحال الحقيقية للاتحاد، الذين يعيش أسوأ أزمة على الإطلاق منذ البدء بتأسيسه عندما انطلق عبر تحالف الحديد والصلب من خمس دول أوروبية. أزمة طرحت أسئلة، لم يكن أحداً يتوقع أن تتوافر لها البيئة لطرحها. أسئلة مثل: هل ينفرط عقد الاتحاد الأوروبي؟ وهل ينهار اليورو؟ وهل تخرج اليونان قسراً من الاتحاد؟ وهل تنسحب بريطانيا منه؟ وما جدوى الاتحاد؟ إلى آخره. ورغم أن الإرادة الكامنة لحماية الاتحاد أكبر وأقوى من تلك الراغبة في تفكيكه، إلا أن هذه الأسئلة تجسد حالة مشؤومة، لا أحد من الاتحاديين يستعذب سماعها، حتى ولو كان بعضها غير واقعي.
دفعت المآسي المالية التي يعيشها الاتحاد الأوروبي، كل دوله إلى ''النضال'' من أجل الهروب من بعض الالتزامات التي تفرضها الموازنة العامة للاتحاد عليها. فقبل الأزمة الاقتصادية العالمية، التي خلفت (في سياق ما خلفت) أزمة اليورو الخطيرة، كان تحرك الدول المعنية في هذا المجال معتدلاً، وبالتالي كانت معارضاتها معتدلة ومتوازنة. الخلافات بين قادة الاتحاد، انصبت حول مستوى الاستقطاعات التي يطالبون بها، إلى جانب توزيع هذا الخفض في النفقات العامة. الكل يريد توفير ما أمكن من حصته في الموازنة، ليس لصرفها على شعبه، بل لسد العجز في الموازنة العامة في بلاده. فهؤلاء في النهاية سياسيون، يعرفون أن العجز المحلي المتواصل والمتصاعد، سيولد عجزاً عندهم في الاستمرار في الحكم، خصوصاً أن غالبية الحكومات الأوروبية هشة شعبياً، وبعضها هش برلمانياً.
ليس غريباً أن تعارض بريطانيا المقترح الخاص بالموازنة الأوروبية. فهي تعارض ذلك في زمن الازدهار، فكيف لا تعارض في وقت الكساد والركود والمحن الاقتصادية؟! فهي تريد تخفيض حجم الموازنة بصورة كبيرة، لكنها (في ذلك) تواجه حقيقة مرة، تكمن في أن خفض الموازنة، يعني الإجهاز على الكثير من القطاعات في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الزراعة، التي فقدت لوحدها في المقترح الأول (وليس المقترح الذي عُرض على القمة الأخيرة)، ما يقرب من 25،5 مليار يورو. ونال المقترح الأول من المناطق الأوروبية المتأخرة اقتصادياً، وقضم أكثر من 30 مليار من مخصصاتها. المقترح الذي رُحِل إلى القمة المقبلة، أعاد شيئاً من الاستقطاعات إلى هذه القطاعات، ليس حباً فيها، ولكن لضرورة التنمية وتمكين روابطها.
لا شك في أن قادة الاتحاد الأوروبي يعيشون وضعاً مزرياً. فهم إذا خفضوا الموازنة، ضربوا النمو، وإذا أبقوا عليها أو رفعوا شيئاً من قيمتها، ضربوا أنفسهم سياسياً، لأن الحسابات الأوروبية ستمر إلى جداول الحسابات المحلية كلها. وعلى هذا الأساس، لا بد من تسوية ما، تأخذ في الاعتبار عمليات الإنقاذ التي تشهدها عدة دول أوروبية في آن معاً، وتهتم أيضاً بوضعية المنقذين الاقتصادية، لا سيما ألمانيا، التي تحولت إلى بقرة حلوب، تواجه نقصاً خطيراً في منسوب ''حليبها''. القضية أخطر بكثير من تقريع ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا لرئيس الاتحاد الأوروبي هيرمان فان رومبوي، لأن هذا الأخير لم يُحضِّر جيداً للقمة الأخيرة. فمهما كان بارعاً في التحضير للقمم، لا يمكن أن يتحمل نجاح أو فشل القمة. كما أنه ليس المسؤول عن ترحيل القادة لملف الموازنة إلى القمة المقبلة. الشيء الأهم هنا، أن تكون هناك قناعة لدى الدول المؤثرة في الساحة الأوروبية، بضرورة الحفاظ على الاتحاد، بصرف النظر عن الآثار السياسية له على الساحة الداخلية للدول المنضوية تحت لوائه. بعد ذلك يمكن تسويق الموازنة (أياً كان مستواها)، من جهة مصلحة كل دولة في اتحاد قوي.
لا شك أن قادة الاتحاد الأوروبي يعيشون وضعا مزريا فهم إذا خفضوا الموازنة ضربوا النمو وإذا أبقوا عليها أو رفعوا شيئا من قيمتها ضربوا أنفسهم سياسيا، لأن الحسابات الأوروبية ستمر إلى جداول الحسابات المحلية كلها.