«أرامكو» .. التحلية .. والمعرفة الكيفية
تعتبر المعرفة الكيفية Know How القاعدة التي نشأ عليها اقتصاد المعرفة، حيث بدأت بما تنتجه مراكز التدريب من كوادر فنية تخدم القطاعات الصناعية المختلفة، وبما تنتجه المصانع من أدلة لتشغيل خطوط الإنتاج ولصيانة وتشغيل الأجهزة المنتجة منها، وتطورت إلى برامج حاسوبية معقدة لتكون فكرا غير منظور في أذهان المهندسين والمتخصصين في مجالات الإنتاج الصناعي المختلفة، التي أنشأت لدينا ما يسمى "عقدة الخواجة"، حيث صارت هذه المعرفة مرتبطة بمهندسين وخبراء نستقدمهم من الخارج، وذلك لوجود البيئة المناسبة هناك لحصولهم على التميز والخبرة التي في مجملها تصب في المعرفة الكيفية.
وقد تطورنا قليلا بعد أن فرضنا ترجمة أدلة التشغيل لبعض الأجهزة الاستهلاكية وتعريب بعض البرامج مثل برامج تشغيل الحاسب الآلي، ولكننا لن نكون منتجين لهذه المعرفة ما لم نطور معاهدنا التقنية وكلياتنا الجامعية، لتنتج كوادر فنية مدربة نادرة تتسابق عليها الشركات في سوق العمل، وإن ذكرنا مثالا فإن شركة أرامكو ابتعثت على مر السنين عديدا من الطلاب السعوديين للخارج، وذلك لجلب هذه المعرفة لديها، ولكنها عندما نضجت واحتاجت لتغيير جلدها الناعم بجلد خشن، كأن تكون منفذا لأعمالها بنفسها، بدأ من التنقيب إلى التكرير في هذا البلد الذي يحتوي على أكبر احتياطي للنفط في العالم، قامت بالتخلص من جميع المعرفة الكيفية التقنية لديها، وذلك بمنحها الشيك الذهبي لكل المعرفة الكيفية لديها من المواطنين، وأصبحت شركة معوقة تعتمد على العقود مع الشركات العالمية الكبيرة، وبدلا من أن تكون شركة عالمية عملاقة في مجالات النفط صارت مكتبا تنفيذيا لخدمة الشركات الأجنبية وبعض الشركات المحلية الصغيرة.
وفي مثال آخر إيجابي نورد تجربة المؤسسة العامة لتحلية المياه، التي استطاعت تطوير تقنية التحلية بالتناضح العكسي لترفع الإنتاجية إلى 40 في المائة، وهي أيضا تمتلك المعرفة الكيفية لهذه التقنية، حيث نقلت إلى الخارج وعلى الأخص الصين، حيث يتدرب مواطنون صينيون في معهد المؤسسة في الجبيل على طرق الإنتاج الجديدة المولدة لدى المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة.
وتستقبل مؤسسة التحلية خريجي الجامعات السعودية في مختلف التخصصات، فيما لم تقبل شركة أرامكو خريجا واحدا من قسم النفط في جامعة الملك سعود منذ فترة طويلة، وهي مثال لكثير من الشركات الكبيرة في المملكة، التي لا تثق بخريجي الجامعات، وقد تتعاقد من الخارج مع خريجي جامعات دون مستوى جامعاتنا لتتعلم هذه الكوادر الأجنبية وتنهل من الفكر غير المنظور الغالي الثمن ثم تذهب للعمل في بلدان متقدمة، حيث إن من شروط توظيف بعض الشركات العالمية شرط مميز، وهو أن يكون الأجنبي عمل في المملكة لفترة من الزمن وتظهر هذه الظاهرة جليا في الكوادر الطبية، فمن عمل لفترة طويلة هنا سيكون قد تعلم ونضج ليعمل في البلدان الأخرى المتقدمة وأصبحنا لا نستحقه، لأنه يحمل جواز سفر لبلد آخر ويستحق شيكا ذهبيا ومبلغا كبيرا لنهاية خدمته لنتخلص منه أسوة بزملائه السعوديين.
قد نسمح لأجدادنا أن يتعاقدوا مع شركات أجنبية للتنقيب عن النفط والغاز لدينا، ولكنهم لن يسامحونا إذ لم نحقق رؤيتهم في أن تكون شركتنا الوطنية عالمية تحصل على الامتيازات في شمال إفريقيا وبحر الشمال وخليج المكسيك، وتقوم بتنفيذ عمليات التنقيب والاستخراج والتكرير والتسويق، وأن تبحر في مجالات الطاقة النظيفة وعلى الأخص الطاقة الشمسية، التي وهبنا الله الكثير منها، تماما كما هي شركات الطاقة العالمية شل وإكسون موبيل التي تعادل ميزانياتها السنوية أكثر من نصف دول العالم قاطبة، وهل نستطيع أن نسأل عن حجم ميزانية شركتنا الوطنية أرامكو ونسبتها لمثيلاتها من الشركات العالمية اليوم، وقد يتعجب الكثيرون من الأمية لدينا في مجالات المعرفة الكيفية المتخصصة في أعمال النفط، مع أننا أكبر منتج له على مستوى العالم، وفي المقابل لم يتعجب الصينيون من إتقاننا بعض المعارف الكيفية في مجال تحلية المياه وأرسلوا أبناءهم للنهل من هذه المعرفة لدينا، وفي الواقع لو طورنا هذين المجالين تقنيات التحلية وتقنيات النفط، لتم استيعاب كل البطالة لدينا لنجد ندرة في سوق العمل ورأس مال استثماري فكري غير منظور، أضعاف ما لدينا الآن من رؤوس الأموال التقليدية.