التخطيط الاستراتيجي الحاضر الفاشل ..
دون مبالغة لم أجد منشأة حكومية أو خاصة أو أهلية إلا ولديها استراتيجية مكتوبة بها رؤية ورسالة وأهداف عامة وقيم حاكمة ومبادئ وسياسات وبرامج ومشاريع استراتيجية ما يجعلني أظن أن الاتجاه لدى هذه المنشآت واضح وأنها منطلقة في تنفيذ برامجها ومشاريعها بسرعات في إطار رسالتها للوصول لرؤيتها، ولكن مع الأسف الشديد ما أن أطلع على واقع كم ونوع البرامج والمشاريع والآليات الحقيقية على أرض الواقع ومدى توافقها مع الاستراتيجية حتى أُصاب بالإحباط حتى أنني أجزم أن معظم هذه الاستراتيجيات ما هي إلا حبر على ورق نقلت إلى بروشورات ترويجية وأن العمل يتم وفق خطة ''طقها وألحقها'' المشهورة حيث البرامج والمشاريع لا تتمحور حول رؤية أو رسالة أو أهداف عامة، وحيث التكتيكات تعارض الاستراتيجية في كثير من الأحيان.
ومن يطلع على هيكلة هذه المنشآت ذات الاستراتيجية المكتوبة لا المطبقة يعرف أن لا علاقة بتاتا بين التنظيم والتخطيط، فما بالك إذ نظرت إلى أسس وقواعد التوظيف والتعيين والتأهيل ومهارات وقدرات الموظفين ومعارفهم وأسلوب الإدارة والأنظمة المالية والإدارية والاتصالية والثقافة التنظيمية السائدة في المنشأة. أقول إذا أطلعت على كل ذلك ستتأكد بما لا يدع مجالا للشك أنه لا أمل في تطبيق الاستراتيجية التي قد تكون مكتوبة بعناية كبيرة من قبل شركة استشارية كبرى أخذت كامل حقوقها لأوراق مآلها الأدراج.
أحد الأصدقاء متخصص في الاستشارات الإدارية عموما والتخطيط الاستراتيجي على وجه الخصوص يقول إن منشأة طلبت منه تقييم مدى التقدم في تحقيق أهدافها الاستراتيجية والانحرافات وكيفية معالجتها، وأنه عندما نظر إلى نوع ومستوى الإنجاز ونظر للهيكلة ومعارف ومهارات الموظفين الفنية والاتصالية والذهنية وأسلوب الإدارة والأنظمة والثقافة التنظيمية، قال لهم إنه لا تقدم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية.
متخصص في العلاقات العامة والإعلان يقول إن الكثير من المنشآت التي تطلب تصميم وطباعة البروشورات التعريفية أو الترويجية تطالبنا بكتابة الرؤية والرسالة والقيم والأهداف بأي صورة كانت كأحد متطلبات تعزيز صورة الشركة أمام الآخرين، أي أنهم أخذوا القضية من قاصرها بدل أن يكلفوا شركة استشارية متخصصة لإعداد وكتابة استراتيجية وتحويلها للأدراج اختصروا كل ذلك وذهبوا لوكالة الإعلان والعلاقات العامة وقالوا لهم اكتبوا مظاهر الاستراتيجية لنضلل بها الآخرين في حين أن الاستراتيجية المستخدمة لدى الطرفين هي تسيير الأعمال في إطار المهمة الأساسية للمنشأة بخطة ''طقها والحقها'' ويجيب الله خير.
بعض المسؤولين ونتيجة الفشل الهائل في تطبيق الاستراتيجيات رغم عظم تكاليف بعضها، أصبح على قناعة تامة أن التخطيط لا فائدة منه وأن التوجه لمرحلة التنفيذ مباشرة هي الطريقة المثلى وأنه من خلال التجربة والخطأ ستصل في النهاية للاتجاه الأمثل والوسائل المناسبة، بمعنى استخدام استراتيجية التخبيط حتى تصل للتخطيط، ودون أدنى شك هذه الطريقة فاشلة من الأساس وينتج عنها هدر هائل في الموارد بما في ذلك مورد الوقت الذي أصبح حاسما، وأعرف الكثير ممن اتبع هذه الطريقة ممن وقع في مشكلات هائلة خصوصا في جانب التدفقات النقدية ما جعله يخسر الكثير من أمواله ويغلق منشآته دون جدوى أو فائدة.
هناك تجارب قليلة ناجحة وجيدة ومن ذلك استراتيجية آفاق لوزارة التعليم العالي والتي أعدتها نخبة من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وفق منهجية صحيحة، ومن أهم عوامل نجاح هذه الاستراتيجية أن رئيس فريق إعدادها أصبح المسؤول عن تطبيقها ما أدى إلى نجاح الوزارة في المضي قدما وبخطى حثيثة تجاه تحقيق الكثير من الأهداف الاستراتيجية ورؤيتها رغم كثرة العوائق الناشئة عن الاقتصاد الرعوي ومؤسساته المترهلة، وما انتشار الجامعات في كل أنحاء المملكة وارتفاع طاقتها الاستيعابية وتعدد كلياتها وتفاعلها مع مجتمعاتها وأعداد المبتعثين، إلا أحد مظاهر هذه النجاحات التي ما زلنا ننتظر منها المزيد.
أحد المستشارين في الخدمات الإدارية يقول إن الكثير من المفاهيم الإدارية نشأت وتطورت في دول ذات اقتصاد رأسمالي حقيقي، دول صناعية متقدمة تتمتع باقتصادات قوية وتعليم متطور وفكر تنموي متميز ونمو مطرد، وبالتالي فإن هذه المفاهيم الإدارية كانت حلولا لمشكلات تواجهها هذه المنشآت الاقتصادية الكبيرة في أسواق تنافسية محلية وعالمية شديدة الشراسة وانتقلت لنا ونحن لا نعاني مشكلات كما يعانون، ذلك أننا اقتصادات رعوية وحيدة المصدر ما جعلنا نستقبلها ونتعامل معها بلا مبالاة كبيرة من باب تجربة هذه المفاهيم الإدارية التي بدأت تسود ليس إلا وهو ما أدى إلى فشلها حتى أصبحت بمرور الزمن بالنسبة للبعض من أدوات تحسين الصورة فقط.
والسؤال ماذا ننصح أصحاب المنشآت الحكومية والخاصة وغير الربحية في بلادنا؟ هل ننصحهم بالعودة للعمل بمبادئ الإدارة والعمليات الإدارية البسيطة بشكل تقليدي يتناسب مع قدراتهم وفكرهم الإداري؟ أم ننصحهم بمعالجة عوائق إعداد وتنفيذ خطط استراتيجية فعالة في عصر العولمة والانفتاح الاقتصادي الذي يتطلب منشآت منافسة قادرة على الاستمرارية والنمو؟
أتمنى أن تقوم اللجنة المعنية بالاستشاريين في مجلس الغرف بتطوير سوق الاستشارات الإدارية وتوعية عناصر السوق من منتجين للخدمات ومستفيدين منها ووسطاء من شركات تدريب وخلافه ليصبح التخطيط أياً كان نوعه وبقية العمليات الإدارية متوافقة وفعالة ترفع الكفاءة الإنتاجية للموارد كافة وتوقف الهدر الهائل الحالي لعلنا نضع أرجلنا على أعتاب مرحلة تطور حقيقية.