لماذا نجحت الديمقراطية في إندونيسيا وانتكست في مصر؟
في النسخة السابعة لمنتدى الاتحاد السنوي الذي عُقد في أبو ظبي أخيرًا، خـُصصت جلسة بعنوان ''المشهد العربي ومسارات التحول''، تحدث فيها بعض الزملاء من المفكرين العرب الذين كان من بينهم المفكر الإسلامي اللبناني الدكتور رضوان السيد.
في رأي السيد أن تحولات الربيع العربي في بعض الدول كمصر عجزت عن تحقيق أهدافها بسبب تحدي الإسلام السياسي الذي نعته بالكبير والنافر، مضيفًا ''أن الإخوان شعبويون وإقصائيون، والسلفيون انفجاريون ومصممون، فيما الفكر النهضوي الإسلامي القادر على استيعاب التطورات الحديثة والمعاصرة في إدارة الشأن العام، والحكم الصالح، والتمييز بين الدعوي والسياسي غائب''. وكي يثبت أستاذنا السيد نظريته هذه فإنه قارن الوضع المصري بأوضاع إندونيسيا في أعقاب ثورة شعبها ضد الديكتاتورية السوهارتية في عام 1998، قائلا إن ما حدث في إندونيسيا من نجاح للديمقراطية واستتباب لمؤسساتها كان بسبب خلو إندونيسيا من تحدي الإسلام السياسي المتشدد.
ولما كنت متابعًا وملمًّا بأوضاع إندونيسيا، فإني قدمت مداخلة قصيرة اعترضت فيها فقط على إشارة السيد إلى خلو المجتمع الإندونيسي من جماعات الإسلام السياسي المتطرفة، مع اعترافي وإقراري بما عُرف عن هذا المجتمع أصلاً من تسامح ديني مدهش. فلو سلمنا بما قاله السيد فكيف نصنف ''الجماعة الإسلامية'' بقيادة رجل الدين الإندونيسي المتشدد من أصول حضرمية أبوبكر باعاشير، وفي أي خانة نضع أتباعه وتلامذته من أمثال عمروسي، ونورالدين توب، وأبو دجانة، وذو المتين، والحنبلي، والأزهري حسين وغيرهم ممن نفذ أعمالاً إرهابية يندى لها الجبين على مدى السنوات الماضية، ومارس العنف المسلح والإرهاب والتفجيرات وإزهاق الأرواح البريئة على أمل تحقيق فكرة خيالية تجاوزها الزمن وهي إقامة دولة خلافة إسلامية في جنوب شرق آسيا تضم إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي والأقاليم الجنوبية من تايلاند والفلبين.
ووافقني في وجهة النظر هذه الدكتور بهجت قرني أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة الأمريكية، الذي بدا مطلعًا على دقائق الحالة الإندونيسية من خلال ما نظمه في جامعته من ورش عمل ولقاءات أكاديمية حول مسارات التحول الديمقراطي في العالم الثالث.
إن ما حدث في إندونيسيا ولم يحدث في مصر مثلاً، من وجهة نظري المتواضعة، لم يكن بسبب وجود تحدي الإسلام السياسي المتشدد في الثانية وغياب هذا العامل في الأولى، إنما بسبب أمر آخر فائق الأهمية في سياق هذا الحديث هو تفشي الأمية في مصر وبلوغها معدلات مرتفعة مقابل أقل من 7 في المائة في إندونيسيا. والأمية، كما هو معروف، تحوّل الجماهير إلى قطيع ينطلي عليها أي شعار من أي مصدر كان، وتجعلها مغيبة وغير قادرة على التمييز وقت منح صوتها الانتخابي العزيز، بينما ارتفاع نسبة المتعلمين تؤدي إلى نتائج معاكسة.
ففي إندونيسيا، حيث تصل نسبة المتعلمين إلى 93.4 في المائة من إجمالي السكان البالغ عددهم اليوم نحو 238 مليون نسمة كان المجال متاحًا أمام جماهير الناخبين للتمييز بين من يمثل تطلعاتهم وآمالهم الحقيقية، ولديه من المصداقية ما يكفي لتحقيق تلك التطلعات، فذهبوا إلى صناديق الاقتراع في كل الانتخابات التي تلت سقوط الديكتاتورية، من بعد قراءة واعية ودقيقة لبرنامج كل متنافس وسيرته الذاتية ومدى تفانيه في خدمة مجتمعه، ومدى قدرته على تنفيذ وعوده الانتخابية. وفي آخر انتخابين رئاسيين لم يجد المقترعون الإندونيسيون، الذين ذاقوا الأمرين من رعونة وصفاقة جنرالات المؤسسة العسكرية وفسادهم، غضاضة في منح أصواتهم بكثافة لرجل عسكري كان قد خلع بزته الكاكية منذ زمن قريب وشكل حزبًا سياسيًّا توافقيًّا تحت شعار ترسيخ الديمقراطية والعدالة والمساواة، وتحقيق تنمية للأمة مشابهة لما تحقق في دول الجوار. هذا الرجل الذي وثق به الإندونيسيون رغم خلفيته العسكرية هو الرئيس سوسيليو بامبانغ يودويونو، الذي يقود الديمقراطية الإندونيسية الوليدة بنجاح من بعد مرحلة مخاض عسيرة في عهود أسلافه الثلاثة (يوسف حبيبي، وعبد الرحمن واحد، وميغاواتي سوكارنوبوتري).
وساعد المقترع الإندونيسي هنا ثورة الإعلام الجديد وتكنولوجيات التواصل الاجتماعي التي اجتاحت بلاده ووصلت إلى أقصى جزيرة من جزر إندونيسيا البالغ تعدادها نحو 17500 جزيرة، الأمر الذي مكن هذا المقترع من تكوين صورة أوضح للخيارات المتاحة أمامه سواء على صعيد المترشحين للرئاسة أو لعضوية البرلمان، من بعد أن كان مكبلاً على مدى ثلاثة عقود بما يضعه الإعلام الرسمي أمامه.
أما في مصر التي تصل نسبة أمية ملايينها الثمانين إلى نحو 40 في المائة في أحسن الأحوال، فإن الأمية معطوفة على العواطف الفجة، والفقر الحائل دون امتلاك قطاع واسع من الناس وسائط الاتصالات الحديثة، والرغبة في التغيير دون التأمل في البديل، جعلت الجماهير التي قادت الحراك الشعبي تقع في فخ الوعود الوردية التي أطلقتها قوى الإسلام السياسي، لتكتشف بسرعة أنها استبدلت ديكتاتورية الفرد بديكتاتورية الجماعة والمرشد. وما الفوضى الأمنية، وتعقيدات المشهد السياسي، والقرارات الإدارية المتناقضة، والمصادمات الشارعية التي أعقبت وصول الرئيس الدكتور محمد مرسي إلى سدة الرئاسة إلا دليل على حالة ''السيولة المصرية'' كما وصفها صديقنا المفكر القطري الدكتور عبدالحميد الأنصاري.
والمؤكد أن الحالة المصرية بتشعباتها المختلفة ستتكرر قريبًا في أفغانستان التي تستعد لانتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة بعد انتهاء فترة ولاية الرئيس حامد كرزاي الذي أفاد بعدم رغبته في الترشح مجددًا. فالمجتمع الأفغاني لئن كان أكثر تخلفًا وأمية واضطرابًا من مجتمعات الربيع العربي، فإنه في الوقت نفسه أكثر تشددًا وتعصبًا للقبيلة والطائفة والعرق. وهذه العوامل مجتمعة ستجعل من حالة التشظي المجتمعي، والانفلات الأمني، والتطرف الفكري الراهنة مستمرة إلى أجل علمه عند الله، وستعيق أي خطة، (كائنًا من كان الفائز في الانتخابات الرئاسية القادمة) لإخراج البلاد من دوامة الحروب الأهلية ووضعها على سكة الإصلاح والتنمية، خصوصًا أن التجارب والأحداث أثبتت أن أفغانستان ضحية موقعها الجغرافي الكئيب، بمعنى أنها محاطة بمجموعة من القوى الأكثر تقدمًا منها، وكل قوة تدس أنفها في شؤونها الداخلية وتبني فيها لنفسها نفوذًا بحجة حماية مصالحها القومية. وبطبيعة الحال، فإن في مقدمة هذه القوى باكستان التي لعبت وما زالت تلعب من خلال مخابراتها العسكرية دورًا مشبوهًا في توتير الأوضاع في هذه البلاد. ثم تأتي إيران التي تنطلق في سياساتها الخارجية تجاه أفغانستان من منطلقات مذهبية وطائفية بحتة.
ومما لا شك فيه أن ولاءات الجماعات الأفغانية السياسية العابرة للحدود باتجاه هذه الدولة أو تلك من دول الجوار بحسب الأيديولوجيا أو الإثنية المشتركة أو المذهب الديني الواحد لعبت على الدوام دورًا مخربًا وعائقًا أمام استتباب الأمن والسلام. وهذه الجزئية تحديدًا تنطبق على بعض الحركات السياسية العربية التي باعت نفسها للأجنبي بثمن بخس، بل صارت تفاخر بذلك علنًا دون حياء بعد أن كان مثل هذا التصرف في حقبة المد القومي، ومرحلة مواجهة الاستعمار الغربي عيبًا وخيانة للوطن وجريمة تدمغ صاحبها بالعار في حياته ومن بعد مماته.
ومجمل القول إن العدو الحقيقي لإقامة ديمقراطية سليمة هو الجهل.