الحوار الآسيوي ما قبل القمة الأولى
تشرفت مع نخبة من المفكرين العرب والآسيويين البارزين بحضور الملتقى الأكاديمي الذي نظمته كلية العلوم الاجتماعية في جامعة الكويت يومي التاسع والعاشر من تشرين الأول (أكتوبر) برعاية كريمة من الديوان الأميري الكويتي، وذلك استعدادا للقمة الأولى للحوار الآسيوي التي استضافتها الكويت أخيرا.
ولا أبالغ لو قلت إن الحدث كان من المناسبات النادرة لجهة استضافة حشد كبير من المهتمين بالشؤون الآسيوية تحت سقف واحد، والإنصات إلى طروحاتهم ورؤاهم حول ملف مطروح بقوة على طاولة صناع القرار العرب، ألا وهو ملف ''التوجه شرقا'' وكيفية الاستفادة من الإمكانات الهائلة والتجارب الغنية للأمم والشعوب الآسيوية في عملية النهوض والارتقاء بأممنا التي لا تزال قابعة في ذيل الأمم، وتصارع من أجل الحفاظ على أمنها وسيادتها واستقلالها واستقرارها، وما تحقق لبعضها (مثل أقطار الخليج العربية) من تنمية وتحديث ومستويات معيشية لائقة خلال العقود القليلة الماضية.
لم يكن غريبا أن تتفاوت رؤى وطروحات المشاركين والمتحدثين، وأن تتنوع مضامين محاضراتهم، وتختلف مرئياتهم. فهم جاؤوا من أقطار متباينة في مساحاتها، وعدد سكانها، وطموحاتها السياسية، وعلاقاتها الخارجية، وثقافات شعوبها، ونموها الاقتصادي، ومشكلاتها الداخلية. لكن المهم هو أن نقاشات أربع جلسات على مدى يومين خرجت بحصيلة من الأفكار والتوصيات المفيدة لجهة كيفية تعزيز أواصر التعاون والتبادل والشراكة ما بين غرب آسيا العربي وجنوبها وشرقها وشمالها. ويمكن تلخيص تلك الأفكار في:
- ضرورة إقامة شراكة بينية مؤسساتية الشكل، طويلة المدى، متعددة الأوجه، ومبنية على قاعدة المصالح المشتركة وليس على العواطف والأيديولوجيات، لكيلا تكون تلك الشراكة معرضة للأهواء والأمزجة والتقلبات السياسية.
- تركيز الاهتمام على القوى الآسيوية الكبرى أو الصاعدة كالصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان، مع عدم إغفال القوى الأخرى ذات التأثير الأمني في غرب آسيا (مثل باكستان وأفغانستان وإيران) أو المتميزة بتجاربها التنموية والعلمية الفريدة كـ (ماليزيا وسنغافورة) أو المتميزة بثقلها السكاني وديمقراطيتها الناشئة كإندونيسيا.
- ضرورة إيجاد وسائل جديدة ومبتكرة للتواصل الثقافي والاجتماعي مع الأقطار الآسيوية من خلال تدشين برنامج لتبادل الطلبة والأكاديميين والباحثين، وإقامة الفعاليات الثقافية المشتركة، وترجمة المؤلفات الآسيوية إلى العربية، وإقامة معاهد متخصصة للدراسات الآسيوية في الجامعات والمعاهد العربية العليا.
- استغلال حاجة القوى الآسيوية الصاعدة للنفط والغاز الخليجيين، واهتمامها بتأمين الخطوط البحرية لإمدادات الطاقة من الخليج في إشراكها في الترتيبات الأمنية الخاصة بالمنطقة، مع تعزيز التعاون العسكري والدفاعي والتكنولوجي، وذلك من باب تبادل المنافع والمصالح، والتصدي للأخطار المشتركة.
- التقريب ما بين أهداف التجمعات الآسيوية الإقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي ومنظمتي ''آسيان'' و''سارك''، وصولا إلى قيام الاتحاد الآسيوي الذي دعا إليه أمير الكويت.
أما محاضرة كاتب هذه السطور فقد ركزت على الجانب المهمل في العلاقات العربية – الآسيوية، وهو التواصل الاجتماعي والثقافي الذي لم يحظ حتى الآن بالعناية اللازمة على الرغم من وجود الملايين من الأيدي العاملة الآسيوية في الدول العربية، ناهيك عما يربط الطرفين بعضهما ببعض من أواصر تاريخية وثقافية وروحية كما هو الحال ما بين أقطار الخليج وشبه القارة الهندية مثلا.
ومما قلته إن الدول الآسيوية تشهد حراكا اجتماعيا وثقافيا غير مسبوق، وإن هذا الحراك هو إحدى سمات تطور وبروز دور منظمات المجتمع المدني فيها، وإن ثورة الاتصالات والمعلوماتية التي بزت فيها الدول الآسيوية الصاعدة وغيرها من الدول المتقدمة لعبت دورا مؤثرا في انتقال الأفكار والتجارب ما بين الأمم والشعوب الآسيوية، الأمر الذي يمكن الاستشهاد فيه بما حققته الهند في صناعة البرمجيات منذ اعتمادها سياسات السوق، وما حققته على هامش ذلك من خلق كوادر ومؤسسات متخصصة تتهافت على خبراتها الدول الآسيوية الأخرى. وأضفت أنه يمكن قول الشيء ذاته عن الصين التي حققت إنجازات اقتصادية وصناعية مشهودة منذ تخليها عن سياساتها الراديكالية، وبما أثر تأثيرا إيجابيا في مستوى معيشة مئات الملايين من مواطنيها، وساعدهم بالتالي على التواصل مع جيرانهم في مختلف المجالات.
أما لجهة أبرز ملامح التواصل الثقافي والاجتماعي في شرق آسيا فذكرت أنه يشتمل على زيادة أعداد المتنقلين ما بين دول المنطقة كسياح ورجال أعمال وطلبة علم، حيث إن للتنقل دورا مؤكدا في تقوية عرى التواصل وبناء العلاقات وكسب المزيد من المعرفة والاطلاع.
والملمح الآخر في هذا السياق هو بروز عدد من الجامعات والمعاهد الآسيوية العليا في الهند واليابان والصين وتايوان وهونج كونج وسنغافورة وكوريا الجنوبية على قائمة أفضل الجامعات والمعاهد في العالم، الأمر الذي شجع طلبة آسيويين كثرا على الالتحاق بها والنهل من برامجها الأكاديمية المتطورة. وهذا بطبيعة الحال خلق مجالا آخر للتواصل الاجتماعي والثقافي، وتلاقح الأفكار والرؤى.
والملمح الثالث هو الأجواء المفتوحة أمام وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة في دول ديمقراطية قديمة كالهند، ودول ديمقراطية ناشئة كإندونيسيا، التي أسهمت في تدفق المعلومات وتبادل الأفكار حول حقوق المرأة والطفل والإنسان بصفة عامة، ودور منظمات المجتمع المدني، والأحزاب والتنظيمات السياسية في رفد الحراك المجتمعي.
ففي الهند مثلا، وبسبب اجتثاث نسبة معتبرة من الأمية، وتحسن القدرات الشرائية، والعدد الهائل من السكان المتعطشين للمعرفة، وازدهار الإعلان التجاري، نجد أن المنتج الإعلامي بصوره المتنوعة يحقق أرباحا خيالية، والمؤسسات الصحافية تتوسع بعكس الحال في العالم الغربي الذي يشكو من إفلاس مؤسساته الإعلامية.
أما إندونيسيا فتقدم مثالا حيا على مدى تأثر الحراك الإعلامي والمجتمعي بتغير الأنظمة السياسية. فثورة شعبها ضد الديكتاتورية السوهارتية في عام 1998 فتحت الآفاق أمام ظهور إعلام حر، فتوالدت الصحف والمجلات والدوريات المتخصصة، وانتشرت الفضائيات والإذاعات الخاصة ودخل الكل في منافسة حامية من أجل استقطاب أكبر شريحة من المعلنين، وأيضا أوسع شريحة من القراء والمشاهدين.
ولعل من الأمور التي ساعدت كثيرا على عملية التواصل والتحاور والتفاهم والتبادل بين المجتمعات الآسيوية وجود لغة مشتركة ممثلة في الإنجليزية التي يجيد مئات الملايين التحدث بها، ناهيك عن تزايد أعداد من يتعلمونها باطراد.
لكن ماذا يتناول آسيويو الشرق في تواصلهم الاجتماعي والثقافي عبر شبكات الإعلام الجديد؟ هل هم مثلا يستخدمونها في التحريض ضد حكوماتهم أو ضد شخوص معينة أو في اللغو ونشر الأفكار البالية والخزعبلات مثلما نفعل نحن في غرب آسيا؟ أم أنهم يستخدمونها في الارتقاء بأحوالهم من خلال نشر العلم والمعرفة والاطلاع على التجارب الزاهية للآخر؟ الواضح من خلال الرصد الميداني أن عمليات التحريض والتشويه لصور الأنظمة والحكومات والرموز، والسفسطة السياسية لا تحتل سوى مساحة محدودة جدا. وبمعنى آخر فإن بين الأمور التي نجد لها تجليات واضحة في الشرق الآسيوي، بينما تكاد تكون معدومة في غرب آسيا العربي، استلهام الدول والشعوب الآسيوية لتجارب بعضها البعض دون حساسية أو عقد تاريخية أو أيديولوجية.