مفاجأة في سوق العمل الأمريكي
تفاجأ العالم يوم الجمعة الماضي بنتائج تقرير سوق العمل الأمريكي عن أيلول (سبتمبر) 2012، الذي أشار إلى أن هناك 114 ألف وظيفة تمت إضافتها في سوق العمل الأمريكي في ذلك الشهر، وعلى الرغم من أن هذه الزيادة في الوظائف المضافة جاءت أقل من التوقعات إلا أن معدل البطالة قد تراجع من 8.1 إلى 7.8 في المائة ليهبط معدل البطالة إلى مستوى أقل من 8 في المائة لأول مرة منذ تولي الرئيس أوباما رئاسة الولايات المتحدة في كانون الثاني (يناير) 2009. من ناحية أخرى، فإن تقرير سوق العمل الأمريكي يشير إلى أن المراجعات التي تمت على تقارير شهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس) الماضيين نتجت عنها زيادة عدد الوظائف الجديدة في حزيران (يوليو) بـ 40 ألف وظيفة، وفي آب (أغسطس) بـ 46 ألف وظيفة، أي أن المراجعات أضافت 86 ألف وظيفة إلى ما تم الإعلان عنه مسبقا.
نقطة الضعف الأساسية في التقرير هي أنه يشير إلى أن ما تمت إضافته من وظائف جديدة في القطاع غير الزراعي هو 114 ألف وظيفة فقط، في مقابل هذا الرقم المتواضع من الوظائف الجديدة يتحسن معدل البطالة بـ 0.3 في المائة ليتراجع معدل البطالة من 8.1 إلى 7.8 في المائة دفعة واحدة. بالطبع عندما تتزايد فرص التوظيف بهذا القدر الضئيل لا يتوقع أن يتراجع معدل البطالة على هذا النحو الجوهري، حيث يشير بعض المراقبين إلى أن خفض معدل البطالة بـ 0.1 في المائة يتطلب تشغيل نحو 150 ألف عامل تقريبا، وبالتالي فإن التراجع الأخير لمعدل البطالة يقتضي فتح وظائف لـ 450 ألف عامل تقريبا، وليس 114 ألفا.
لقد كان هذا الهبوط في معدل البطالة جوهريا للغاية مقارنة بأداء سوق العمل منذ بداية الأزمة، إلى الدرجة التي دفعت بالبعض إلى الادعاء بأن إدارة أوباما تتلاعب بالأرقام لكي تظهر معدل البطالة منخفضا بالشكل الذي يساعد الرئيس في حملته الانتخابية الشهر القادم، خصوصا بعد الأداء الضعيف للغاية للرئيس في أول مناظرة علنية له أمام المرشح المنافس ميت رومني.
لقد هاجم رومني أوباما بأنه لا يفعل ما يجب لتوظيف الأمريكيين، وأن المزيد من الأمريكيين ما زالوا يبحثون عن عمل ولكنهم لا يجدونه، والكثير منهم اضطر إلى الانتقال من مسكنه وتحول الكثير منهم إلى الاعتماد على الإعانات التي تقدمها الدولة بسبب نقص الدخل الذي يحصلون عليه. في المقابل يعلن رومني عن أنه سيعمل على فتح 12 مليون وظيفة جديدة في فترة رئاسته الأولى، ولا أدري كيف سيتمكن رومني من فتح هذا الرقم في اقتصاد يعاني أساسا من الكساد، ربما إذا كانت الظروف الاقتصادية طبيعية قد يتمكن من ذلك، لكن في ظل الأوضاع الحالية للاقتصاد الأمريكي قد يصبح من المستحيل تحقيق هذا الرقم. غير أنه لتحقيق ذلك يعرض رومني تخفيضات ضريبية إضافية على الأغنياء والشركات الكبرى لتحفيزها على فتح المزيد من الوظائف، وهو اقتراح أراه خاطئا ولن يؤدي إلا إلى زيادة عجز الميزانية الأمريكية، ومن ثم المزيد من الدين الأمريكي العام.
ميت رومني نفسه علق على تراجع معدل البطالة بأن سبب تراجع معدل البطالة هذا العام يرجع إلى حقيقة أن الكثير من العاطلين قد توقف عن البحث عن عمل (وبالتالي صبح خارج نطاق قوة العمل ولا يعد من العاطلين حسب التعريف الرسمي للعاطل)، وأشار إلى أنه لو أن عدد الأفراد الذين كانوا مسجلين في قوة العمل وقت انتخاب أوباما هو نفس العدد اليوم لكان معدل البطالة الرسمي نحو 11 في المائة.
بعض المراقبين قام بإعداد بعض المراجعات الحسابية لمعدل البطالة للتأكد من صحة ما ادعاه رومني من أنه لو ظلت نسبة مساهمة قوة العمل (نسبة قوة العمل إلى إجمالي السكان) على ما عليه وقت أن تولى أوباما الرئاسة، فإن معدل البطالة الحقيقي ينبغي أن يكون أعلى مما أعلن عنه رسميا، وتوصلوا إلى أن ما اتجه اليه رومني من أن معدلات البطالة تنخفض بسبب أن المزيد من العاطلين في سوق العمل توقفوا عن البحث عنه، وخرجوا بالتالي من قوة العمل، هو أمر صحيح.
البعض الآخر يرى أن رومني كان على خطأ نظرا لأن جانبا كبيرا من الانخفاض في أعداد قوة العمل لا يعود إلى تزايد أعداد العمال المحبطين، وإنما يرجع إلى أن من ولدوا في فترة طفرة المواليد Baby boomers في أعقاب الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي يتركون قوة العمل على نحو كبير اليوم، ومن ثم فإنهم يمثلون السبب الرئيس في التراجع الحادث في أعداد قوة العمل. البعض الآخر يرى أن الخفض في قوة العمل يرجع إلى أن عددا أكبر من الطلبة يعودون اليوم إلى الجامعات، أو أن البعض الآخر ممن فشلوا في أن يجدوا وظيفة نظرا لأن ما هو معروض من وظائف في سوق العمل لا يتوافق مع مهاراتهم عادوا إلى الجامعة مرة أخرى لكي يحسنوا من مهاراتهم على نحو أفضل.
البعض الآخر يضيف إلى ما سبق سببا إضافيا وهو ما ترتب على وقف العمل بنظام إعانات البطالة الطارئة لنحو 865 ألف عامل منذ أيار (مايو) الماضي من نتائج أدت إلى دفع العاطلين نحو قبول الوظائف التي كانوا يرفضونها أثناء حصولهم على الإعانة، وكذلك قبول العمل بنظام بعض الوقت Part time، وهو ما أدى إلى زيادة أعداد العمال الذين هم في حالة توظف، خصوصا أن تقارير سوق العمل خلال الربع الثالث من هذا العام تشير إلى أن العاملين لبعض الوقت بصورة إجبارية يمثلون ثلاثة أرباع الزيادات الحادثة في فرص التوظف خلال الفترة من حزيران (يونيو) إلى أيلول (سبتمبر) 2012، وهو ما يشير إلى أن الزيادة الحادثة في فرص العمل إنما هي أساسا للوظائف الرديئة.
الانخفاض الكبير في معدل البطالة أدى بالبعض إلى محاولة التشكيك في دقة الحسابات التي قام على أساسها حساب معدل البطالة، بل وصل الأمر ببعض المراقبين إلى القول إن البيانات تم التلاعب بها للوصول إلى هذه النتيجة، وقد اطلقت هذه الأرقام الاستثنائية العنان لأصحاب نظرية المؤامرة. على سبيل المثال فإن التقرير يشير إلى تزايد أعداد العاملين لبعض الوقت part time، والذين مثلوا غالبية الزيادة في أعداد العاملين، ومن المعلوم أن مثل هذه الوظائف في مثل هذا الوقت غالبا ما تكون في فرق الدعاية الانتخابية للرئيسين. من ناحية أخرى، فإن أعداد العاملين من سن 20 ـــ 24 قد تزايدت بـ 386 ألفا بما يمثل أكثر من 40 في المائة من العاملين الذين حصلوا على فرصة عمل من الأعمار كافة، وهو ما يوحي أيضا بأن مثل هذه الوظائف تتم في مجال الدعاية الانتخابية للحزبين، أي أن هذه الوظائف هي أساسا وظائف العام الانتخابي والتي ستستمر حتى نهاية موسم الانتخابات فقط، وبالتالي فإن ارتفاع عدد العاملين الذي أعلن عنه في التقرير لا يمثل فرص عمل حقيقية للأمريكيين، وأن معدل البطالة سرعان ما سيعود إلى مستوياته قبل أيلول (سبتمبر) الماضي بعد انتهاء موسم انتخابات الرئاسة الأمريكية.
الخلاصة هي أن الأرقام المعلنة إذن تدور حولها الكثير من الشكوك وتجري الكثير من التحاليل والتعديلات عليها لإثبات مدى صحتها من عدمه، ولكن من المؤكد أن هذا الانخفاض الكبير في معدل البطالة أمر مثير للدهشة، وقد مثل مفاجأة كبرى للمراقبين لسوق العمل الأمريكي، وبالتالي يمكن إرجاعه إلى ما يسمى ''رواج ما قبل الانتخاباتPre-election boom''، ذلك أن بعض نظريات دورات الأعمال يصف دورة الأعمال باستخدام العوامل السياسية، أو ما يطلق عليها دورة الأعمال السياسية Political Business Cycle، والوقت الحالي بالتأكيد هو أفضل الأوقات لحدوث مثل هذه الدورة، ومن ثم من المؤكد أننا سنشهد عودة معدلات البطالة نحو الارتفاع مرة أخرى في المستقبل القريب.